لأول مرة في تاريخ مصر الحديث يثور صراح محموم حول الهوية وكأن تلك كانت المسألة الجوهرية التي فجرت زلزال الضمير الجمعي للأمة المصرية في الخامس والعشرين من يناير2011, والذي مكن للتيار المحظور بقيادة جماعة الإخوان المتأسلمين الصعود إلي السلطة والإمساك بالحكم. لقد إستباح تلكم التيار, بكل فصائله, هوية الدولة المصرية التي تغوص أعماق التاريخ بكل موروثاته الثقافية والحضارية, فإستحدث في دستور2012, موادا تخلع عن مصر هويتها المتوارثة وتؤسس لدولة دينية وتفتح الباب علي مصراعيه لصراعات مذهبية وطائفية وتأتي علي التراث وتشوه الثقافة والفنون والآداب وتسلب من المصري حقوقه الأساسية في الفكر والإبداع ومواكبة العصر وتنكر علي المرأة دورها وتحجم رسالتها. وتجددت الثورة في الثلاثين من يونيو2013, وسقط النظام الذي جثم علي أنفاس المصريين في الثالث من يوليو, وفي الثامن من الشهر ذاته صدر إعلانا دستوريا يؤسس لمرحلة جديدة ويقضي بتعطيل' دستور العوار' سالف الذكر, وتشكلت' لجنة الخمسين' لإعداد مشروع دستور جديد. وإستمر موضوع الهوية يمثل المادة الأهم التي نصب التيار المتأسلم نفسه ممثلا حصريا للدفاع عما أسماه' مواد الهوية' في مشروع الدستور, مختزلا مقاصد المصريين, من ثورتين متتاليتين أسقطا نظامين وأزاحا رئيسين, في موضوع الهوية. وكأن مصر تولد من جديد وأن تاريخ السبعة آلاف سنة قبض عليه ذاك التيار فإغتاله وداسته أقدام التخلف والإنغلاق; وكأن مصر كانت عارية بغير هوية, كافرة بغير دين, وظلت هكذا حتي جاءها المنقذ المنتظر ليلتحفها بدستور فاسد مشوه وباطل سنة2012, سرعان ما مزقه الشعب في زحف غير مسبوق في تاريخ البشرية في الثلاثين من يونيو والسادس والعشرين من يوليو2013, ثم يعيد محاولة فرض هويته علي مصر في مشروع دستور.2013 صحيح أن الدين, والعقيدة عموما, أحد مكونات الهوية,, لكنها, في هذا الإطار, تنصرف إلي الفرد دون الدولة, إذ لم يفرض الإسلام, قرآن وسنة, إقامة ما يسمي' الدولة الإسلامية, فلم يطلق سيدنا محمد( ص) علي' وثيقة المدينة'' الوثيقة الإسلامية', كما لم يطلق وصف' الإسلامية' علي' دولة المدينة'. وتنحصر الدولة الدينية اليوم في إثنتين إحداهما إسلامية تتمثل في جمهورية إيران الفارسية, والأخري وتمثلها' الفاتيكان', وإن كانت الأخيرة أقرب إلي الدولة المدنية التي يدير شؤونها القيادة الرمز رأس الكنيسة الكاثوليكية. ومن هنا فإن المكون الديني أو العقائدي يشكل العنصر المضاف لهوية الفرد بينما يشترك مع الدولة في مكونات هويتها, والخلط بينهما إنحراف بهوية الدولة التي يتقاسمها عموم أبناؤها. إن الخلط بين الدين والهوية يبعد الأخيرة عن مبدأ المواطنة الذي يساوي بين أبناء الوطن الواحد بغير تمييز, كما أن إقحام الدين كعنصر حاكم في تعامل الدولة مع مواطنيها يهدد الحقوق الأساسية للإنسان. إن الهوية تستمد أصولها الشمولية من' تاريخ' الدولة والمجتمع ومن المكونات الحضارية التراثية لهذا التاريخ, وليس فقط من الدين أو العقيدة, فليست الهوية الأمريكية, مثلا,' مسيحية' بالرغم من أن تلك هي ديانة الغالبية, كذلك شأن الهوية الإندونيسية فلا يقال' إندونيسيا الإسلامية' بالرغم من أن الغالبية العظمي يعتنقون هذا الدين الحنيف. والحقيقة, التي لا تتحمل الخداع أو المخادعة, أن أولئك الذين يشهرون السيوف دفاعا عن الهوية يتسترون خلفها كمدخل يؤسس لدولة دينية لحساب مشروع يعشش عقول الجهل والتخلف لدولة' خلافة أممية' تنكر الجغرافيا والتاريخ والموروث. تلك الدولة الإفتراضية لا تمانع مثلا من أن يكون' أمير' مصر تركيا أو أن يكون رئيس قضائها باكستانيا, وهكذا. ويلاحظ هنا أن هوية الدولة لا تحددها بالضرورة خلفية رئيسها, فلا تكون' عسكرية' مثلا لمجرد أن هذه الشخصية كانت يوما تحمل تلكم الصفة, أو تكون' دينية' لكون رئيسها الإمام الأكبر شيخ الأزهر, أو رأس الكنيسة, مثلا. وبإستثناء' الدولة الدينية', فقد تتقارب أو تتماثل رؤي وأهداف وسياسات' الدولة المدنية' و'الدولة العسكرية', خصوصا حال إلتزام النظام الأخير بخصائص الدولة المدنية الحديثة وما يتصل بها من رؤي وأهداف وسياسات كلية منفتحة تتمحور قواعدها حول قيم الحرية والعدل الإجتماعي المحققة للرضا والحكم الرشيد, والتي بدونها تسقط الدولة والنظام في هوية الفاشية والتراجع والرجعية والإنغلاق متساوية في ذلك مع الخصائص الأبرز للدولة الدينية. جدير بالذكر هنا أن العلاقة بين هوية الفرد وجنسيته تدور بالتلازم وجودا وعدما. فالجنسية هي أحد التعبيرات المعلنة للإنتماء والولاء للهوية المزدوجة للدولة ولمواطنيها, يؤدي الإخلال بهما أو التفريط فيهما أو الإتيان, بالقول أو الفعل, بما يعاديهما أو يتنكر لهما, إلي جحود وردة تستوجب إسقاط الهوية والجنسية التي تعبر عنها. فهل يمكن, مثلا, أن ينتمي إلي المصرية, أو أن يبقي كذلك, من أحرق علم مصر في ميدان التحرير في التاسع عشر من نوفمبر2013, في جرم شيطاني لا يأتيه إلا مستعمر أو خائن أو عميل أحرقت لديه ومعه أحاسيس الإنتماء والولاء وأمات مرض الكراهية قلبه وذهب بعقله؟ وهل يمكن أن يكون كذلك أيضا من يحرق ويدمر ويقطع الطرقات ويسرق ويهدد مقدرات الأمة ويحمل السلاح في مواجهة جيشها وشرطتها وشعبها ويغتال ويمارس كل أصناف الترويع والإرهاب الأسود في مصر الكنانة التي كرمها الله في قرآنه وبارك أرضها عندما تجلي فكلم النبي موسي( ص)؟ وهل يعقل أن يتمتع بشرف الإنتساب لهذا الوطن من فرط في السيادة وتخابر مع الأجنبي وإستقوي به وتواطأ معه وداس الدستور وأهدر القانون وتحدي السلطات وإستأسد عليها وتعادي معها ونال من هيبتها وعبث بالبلاد وإنتهك موروثاتها ومقدساتها؟ إن من يفعل ذلك ليس ولن يكون مصريا, ونقول لتلكم الشرزمة من الإرهابيين لقد لوثتم الهوية وغرقتم في مستنقع الخيانة فوجب القصاص منكم وحق بعده عليكم الرحيل, وتفريط التلاقي معكم بعد اليوم. ونقول لهم لقد فاض الكيل وتعري المستور وإنفضح الإستهداف فلا أنتم إلا أعداء للهوية التي أقمتم من أنفسكم حراسا عليها ملتحفين زورا عباءة دين هو منكم براء, ولا أنتم إلا ناكرين للدولة الوطنية المدنية الحديثة من الأساس. أستاذ القانون الدولي لمزيد من مقالات د.عبد الحافظ الكردى