الحق بدون القوة عاجز, والقوة بدون الحق طغيان.. ليس للحب عمر, إنه دائما مولود جديد.. يوجد في العقيدة ما يكفي من النور لمن يريد أن يري, وما يكفي من الظلام لمن لديه ميل إلي ذلك. هذه بعض خواطر بليز بسكال أحد حكماء العصر الحديث, الذي كان فيلسوفا كبيرا, وفي الوقت نفسه مؤمنا بسيطا, يتمتع بإيمان الفلاحين, البعيد عن التعقيدات الميتافيزيقة للفلاسفة, فكان يتعامل مع الطبيعة بالمنهج العلمي, ولكنه مع الانسان يلجأ للتأمل الفلسفي. ولقد أتاح له ذلك ابراز خصوصية الظاهرة الانسانية, المليئة بالتناقضات والمفارقات. لقد أفلت من تعميم النزعة العلمية والعقلانية علي كل شيء والتي سادت في القرن السابع عشر. كما أفلت من النزعة العقائدية التي تلقي باللعنات علي الآخرين. احتوت خواطر باسكال علي دفاع كبير عن الايمان المسيحي الكاثوليكي, وبوجه خاص الطائفة الجانسينية في مواجهة اليسوعية, حتي أنها تضمنت أحكاما سلبية مسبقة مستمدة من الأراء الشائعة عن المذاهب والأديان الأخري ومن بينها الإسلام. ورغم ذلك ظل كتابه' الأفكار' من عيون الفكر العالمي. ربما بسبب أسلوبه الذي جاء عرضا, فهو عبارة عن ملاحظات متفرقة دونها باسكال في قصاصات متفرقة علي أمل توفر الوقت والكتابة المستفيضة عنها فيما بعد. ولم يمهله القدر, وتم نشر الأفكار علي حالتها بعد موته, فصار لدينا هذا الكتاب البديع. وعلي الرغم من موقف باسكال الايماني التقليدي, فإن أشد المعجبين به كانوا من العقلانيين دعاة العلمانية مثل فولتير, بل ومن الماركسيين مثل هنري لوفيفر ولوسيان جولدمان. هناك في أسلوب باسكال ما يتجاوز أراءه الدينية. فهناك تأملات مضيئة وخصبة تفتح أبوابا هامة في مجالات أخري. فهو مثلا يتحدث عن تفاهة الأسباب التي قد تؤدي إلي نتائج مهولة. فكلنا يعلم أن قيصر قد ترك روما لغزو مصر, ووقع في غرام ملكتها كليوباترا فاغتيل علي سلالم الكابيتول. وعاود أنطونيو خليفته غزو مصر, فأحب كليوباترا التي دخلت إلي روما ملكة متوجة. فثار أوكتافيوس لمجد روما وحارب أنطونيو في موقعة أكتيوم بالقرب من الاسكندرية... لم كل هذا؟ لجمال كليوباترا الساحر. فلو كان إذن أنف كليوباترا أقصر قليلا لتغير تاريخ الكرة الأرضية بأسره. وسميت هذه النظرية في فلسفة التاريخ بنظرية' أنف كليوباترا', إشارة إلي رد الحوادث الجسيمة لأسباب قليلة الشأن. كما يتحدث باسكال عن قدر الانسان الذي يحمل علي عاتقه هم الوجود, ثم ينظر إلي السماء باحثا عن كائن واحد يهتم به فلا يجد. أو يقدم تشبيها عن توالي الحضارات وتكاملها فيصورها كأشخاص تأتي كل حضارة لتركب فوق كتف الحضارة السابقة عليها مما يمكنها من رؤية أوسع وأبعد. ويدهشنا اليوم الاستخدام الشائع لمصطلح الإنسانية, فهو محمل بالكثير من المعاني الأخلاقية. والإنسان نوع حي المفروض أنه ينتمي لجنس الحيوان, فلماذا لا نتحدث عن النزعة الحمورية والأرنبية!! لقد حاول بسكال أن يبين أن للإنسان وضعا خاصا. فالانسان كما يقول' يتجاوز الانسان بصورة لا نهائية'. المصدر الاشتقاقي إذن في حالة الحمار يشير إلي واقع محدد, ولكنه في حالة الانسان يشير بالأحري إلي آمال وتطلعات. فهناك لدي الانسان نزوع مستمر نحو الكمال, والذي يسعي للوصول إليه بالمعرفة والأخلاق والجمال. ولهذا فهو حينما يصل إلي مرحلة سرعان ما يسعي إلي تجاوزها, ومن هنا فكلمة الإنسانية التي نستخدمها لا تشير إلي واقع الانسان ولكنها تشير إلي ما يطمح إليه. أعجب فولتير بطريقة بسكال في النظر إلي الايمان بوصفه تجربة ذاتية عميقة بعيدا عن كونه عقيدة رسمية تلاحق الآخرين بتهم الإلحاد والهرطقة. وأعجب الفلاسفة الماركسيين بطريقته الجدلية في الكتابة التي تعبر ببلاغة عن الجمع بين المتناقضات بوصفها السمة الأساسية للوجود. لم يكن هدف باسكال من تأملاته الفلسفية تشييد مذهب فلسفي. كما أن تبحره في مجال العلم أزال من نفسه فكرة بناء الايمان علي العقل, فالعلم ليس مدخلا للإيمان لأن الله ليس موضوعا للمعرفة. ولكن العلم وحده ليس كافيا لعزاء الانسان وكشف أسرار الوجود. من هنا كان لديه فصل واضح بين العلم الذي يرتكز علي العقل والايمان الذي ينبع من القلب, ولذا يقول في أحد خواطره: للقلب أسباب لا يعرفها العقل'. أراد باسكال أن ينأي بالدين عن الجدل الفكري الحاد الدائر في عصره بين اللاهوتيين والعقلانيين والماديين, فقدم في خواطره ما سمي بصيغة الرهان. وهي صيغة تستند بشكل كبير إلي منطق حساب الاحتمالات, تشبه إلي حد كبير بيتين من الشعر لأبي العلاء المعري يقول فيهما: زعم المنجم والطبيب كلاهما.... لا تبعث الأموات قلت: أليكما إن صح قولكما فلست بخاسر... وإن صح قولي فالخسار عليكما يري باسكال من خلال حسابات المكسب والخسارة أن الايمان بالله واكتشاف أنه موجود بالفعل سوف يكون مكسبا غير محدود, أما الايمان به واكتشاف أنه غير موجود فالخسارة هنا محدودة. ولو كان المرء لاعبا حصيفا لراهن علي المكسب غير المحدود, وحتي لو لم يكسب فالخسارة ليست كبيرة. استهجن الكثيرون هذه الصيغة, أيكون الله طرفا في حساب للاحتمالات؟ كيف نربط الايمان بالمكسب والخسارة؟ كيف يكون المؤمن طماعا؟ وكيف يتحول الدين إلي لعبة؟.. لا يجد باسكال غضاضة في ربط الايمان بما هو غير يقيني, فنحن حين نركب البحر وندخر للغد نراهن علي أشياء غير يقينية. الرهان هنا ليس لعبة أنه جوهر وجود الانسان. وبصرف النظر عن الانتقادات التي وجهت لرهان باسكال والصياغات المناقضة له. إلا أن هذا الاقتراح كان له أكبر الأثر علي العلاقة بين الدين والدولة. فلقد تحولت النجاة في الآخرة من يقين إلي رجاء. وبالتالي اختفت أهم أسباب التعصب, فأنت لا تستطيع أن تجبر أحدا علي أن يراهن علي ما راهنت عليه. كما أدت هذه الصيغة أيضا إلي التخلي عن إقامة مشروعية الدولة علي أساس حماية الدين والدفاع عنه. قد يكون من باب المتناقضات, والتي كان باسكال بارعا في التقاطها, أن يكون هذا الفيلسوف المتدين بعمق, هو من يمنح للجميع, المؤمنين واللاأدريين, فرصة العيش سويا في سلام. لمزيد من مقالات د.انور مغيث