يؤكد اتفاق جنيف بين إيران ومجموعة الخمسة زائد واحد بشأن برنامجها النووي حقيقة أنه لا توجد في العلاقات الدولية صداقات أو عداوات دائمة وإنما مصالح دائمة, وأن السياسة الخارجية للدول لم تعد تحدد وفقا لاعتبارات الأيديولوجيا, كما كان إبان الحرب الباردة, وإنما ترسم بما تحققه من مكاسب وخسائر, الأمر الذي ينطبق علي اتفاق جنيف الأخير, حيث إن كلا من أطراف الصفقة قد حقق بعض المكاسب وبعض الخسائر أيضا. وفي ظل المكاسب السياسية التي حققتها إيران من الصفقة هناك بعض التوجهات التي تري أن انفراج علاقاتها مع الغرب, خاصة الولاياتالمتحدة, سوف يؤدي إلي تنامي نفوذها ودورها في منطقة الشرق الأوسط بما يمكن أن يشكله ذلك من تهديد لأمن واستقرار العديد من دول المنطقة, خاصة دول الخليج, ووصل الأمر إلي تصريح رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشوري السعودي أنه بعد اتفاق جنيف فإن النوم سيجافي المنطقة, في إشارة إلي التداعيات السلبية للاتفاق علي خريطة التوازنات والتحالفات الإقليمية والدولية علي استقرار دول المنطقة. والواقع ان افتراض توسع حدود الدور الإيراني بعد الاتفاق مبالغ فيه ويجافي الواقع لعدة اعتبارات أولها أن المكاسب الاقتصادية لإيران هي الأهم, حيث سيتيح الاتفاق فرصا عديدة لانتعاش اقتصادها الذي يعاني تدهورا كبيرا بسبب العقوبات الدولية التي استمرت لأكثر من عشر سنوات, وبموجب الاتفاق فإنه سيتم تخفيف جزئي للعقوبات والإفراج عن مليارات الدولارات الإيرانية المجمدة في البنوك الأجنبية, إضافة إلي رفع الحظر عن المعادن النفيسة والسيارات, وهو أمر مهم مع حالة المعاناة التي يعيشها المواطن الإيراني بعد تدهور عملته وارتفاع نسبة البطالة, مما جعل الرئيس حسن روحاني يصرح بأن إيران تحتاج إلي تشغيل المصانع والإنتاج كما تحتاج إلي تشغيل أجهزة الطرد المركزي. وثانيها أن الاتفاق يوقف مخاطر التهديد النووي الإيراني, فرغم أنه لم يفكك بشكل كامل بنية هذا البرنامج, لكنه يساهم في وقف مساعي إيران في تخصيب اليورانيوم لدرجة تصنيع الأسلحة النووية بما يمكن أن يشكله ذلك في حالة امتلاكها القنبلة النووية إلي إشعال سباق التسلح النووي في المنطقة بما يهدد استقرارها وأمنها. وثالثها أن التقارب الأمريكي الإيراني لن يكون علي حساب العلاقات والتحالف الأمريكي مع الدول العربية والخليجية خاصة السعودية, فليس من مصلحة واشنطن أن تقوم بإحلال إيران كحليف استراتيجي محل الحليفين السعودي والمصري, بل ستعمل علي تحقيق التوازن الذي يحقق لها توظيف الدور الإيراني بشكل إيجابي في الملفات الأفغانية والعراقية والسورية, باعتبار أن طهران تعد فاعلا رئيسيا في هذه الأزمات الثلاث, وفي الوقت ذاته تحافظ واشنطن علي أمن حلفائها الخليجيين وتبديد أي مخاوف أو السماح بأي تهديد إيراني لأمنها القومي أو التدخل في شئونها الداخلية. ورابعها أن الرئيس الإيراني الجديد حسن روحاني يعد من التيار المعتدل في إيران ويسعي إلي انتهاج سياسة تصالحية مع الدول الخليجية بما يضمن استمرار التعاون الاقتصادي الكبير بينهما, ولذلك سارع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلي طمأنة السعودية, وتأكيد أن اتفاق جنيف لن يضر بالمصالح الخليجية أو يهدد استقرارها وأمنها, بل حتي في ظل تولي المحافظين للسلطة في إيران فإن التنسيق والتعاون الخليجي الإيراني سيستمر علي جميع الأصعدة, حيث حضر الرئيس السابق أحمدي نجاد اجتماع القمة الخليجية مرتين, ونجد أن الإمارات الشريك التجاري الأول لطهران, وهذا يعكس برجماتية السياسة الخارجية الإيرانية وانتقالها من مرحلة تصدير الثورة إلي تعظيم المصالح الاقتصادية مع دول الجوار, وهذا لا ينفي بالطبع وجود تيار محافظ قوي يسعي لاستعادة النفوذ والسيطرة الفارسية في المنطقة, ويعتبر أن التحسن الاقتصادي بعد تخفيف العقوبات سوف يمكن من لعب دور سياسي. وخامسها أن خبرة الدور الإيراني في العراق وسوريا ولبنان كانت سلبية وأدت إلي اشتعال الأوضاع في تلك الدول, لكن تصاعد الدور الإيراني كان نتيجة لحالة الفراغ التي نتجت عن تراجع الدور العربي في معالجة الأزمتين العراقية والسورية, وبعبارة أخري فإن حدود الدور الإيراني تتوقف علي حدود الدور العربي ومدي قدرته علي بناء تحالف استراتيجي بين الدول البارزة مثل السعودية ومصر لتحجيم الدور الإيراني, ووقف تغلغله في إدارة قضايا وأزمات المنطقة, إضافة لأهمية تفعيل دور الجامعة العربية في حل القضايا العربية لتقليل دور القوي الخارجية المتزايد والتي تسعي بالأساس لتحقيق مصالحها علي حساب المصلحة العربية. وبالتالي فإن العلاقات العربية والخليجية مع إيران تتطلب تحقيق التوازن بين التخوف من مطامع إيران الإقليمية وتمدد نفوذها وتدخلها في شئون المنطقة بما يشكله من تهديد للاستقرار, وما بين التعاون الاقتصادي والتنسيق السياسي معها لتعظيم المصالح الاقتصادية العربية والاستفادة من فرص التجارة مع الاقتصاد الإيراني وسوقه الاستهلاكية الكبيرة, وكذلك تحويل الدور الإيراني السلبي في العراق وسوريا إلي دور إيجابي يساهم في تحقيق الأمن والاستقرار في كلا البلدين ويخرجهما من حالة التعثر الحالية, وهذا هو التعامل الرشيد لرسم حدود الدور الإيراني في المنطقة وتحجيمه بما لا يشكل خطرا بعد توقيع اتفاق جنيف. لمزيد من مقالات احمد سيد احمد