بعد أيام قليلة قضيتها في لندن مرتع طفولتي, أقلعت إلي الولاياتالمتحدةالأمريكية. وكان سفري بدعوة من جامعة هيوستن, في أعقاب تواصل علي مدار العام الماضي عبر شبكة الإنترنت مع هذه الجامعة المرموقة, في بحث ونقاش إشكاليات ومصطلحات تتعلق بقضية التعددية الثقافية التي تفرض نفسها الآن علي أوساط الفلسفة والفكر بشكل عام. كما أوضح كتابي الأخير الذي قمت بترجمته' نقض مركزية المركز: الفلسفة من أجل عالم متعدد الثقافات بعد استعماري ونسوي' وصدر بجزءيه منذ شهور قليلة, عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية. وصلت إلي الولاياتالمتحدة يوم الأربعاء10 أبريل. وفي11 أبريل توجهت إلي جامعة هيوستن. بدت ضخامتها وكثرة طلابها مقارنة بجامعة أيوا التي كنت فيها العام1996, وبالعديد من الجامعات الأمريكية أو بمعظمها. وكذلك اتساعها, حتي أن بداخلها فرع' فندق هيلتون جامعة هيوستن' كبديل لدار الضيافة. وفي كلية الآداب والعلوم الاجتماعية تفضلوا مشكورين بتسليمي مفتاح مكتب أنيق مجهز تماما, وبطاقة رقمية لاستخدام المكتبة. وفقا للموعد المحدد مسبقا, يوم الجمعة12 أبريل, قابلت الدكتورة سينثيا فريلاند رئيسة قسم الفلسفة وقضيت اليوم مع أعضاء قسم الفلسفة وآخرين من أقسام أخري, وكان عنوان مداخلتي:' كيف يمكن تنمية التعددية الثقافية في فلسفة العلم'؟. ولاقت قبولا حسنا, شجعني علي استئناف الحديث حول الفكرة التي تشغلني كثيرا حول معالم منهجية علمية إسلامية. ولما كانت تمثيلا لثقافة هامة تشمل أكثر من خمس سكان العالم, فقد أثارت اهتمامهم, وجدت منهم تقبلا للفكرة ورغبة في تفهم معالمها ودورها وأهميتها, ربما أكثر مما وجدته من زملاء لي في العالم العربي. وحين انصرافي أعارتني فريلاند من مكتبتها الخاصة بضعة مراجع قيمة وغير متوافرة تفيدني كثيرا في أبحاثي التي أريد إتمامها. في يوم الإثنين الموافق15 إبريل حضرت السيمنار الأسبوعي لقسم الفلسفة وكان يدور حول الرغبة والمعرفة والفعل. ووعدتهم بمشاركة ومداخلة في السيمنار القادم, من منطلق حضوري, أي منظور التعددية الثقافية. وكان لي جلسة مطولة جدا مع البروفسور جوش وايزبرج أستاذ فلسفة العلوم. وجدته يفهمها ويدرسها بوصفها فلسفة التجريبية, ويري فلسفة الرياضيات منطقا وفلسفة العلوم الإنسانية موضوعا آخر. وهو يهتم بفلسفة العقل والعلوم المعرفية. تناقشنا طويلا في أنه بعد ثورة توماس كون لم تعد التجريبية تكفي ولابد من دراسة الأبعاد الثقافية والحضارية لظاهرة العلم, مما يفرض العناية بقضية التعددية الثقافية. علي أية حال بدا شديد التقدير للخلفية التجريبية التي أملكها بحكم كارل بوبر ومبدأ اللاحتمية وسواهما. وطلب مني أن أحضر معه محاضرات كورس فلسفة العلوم من الثلاثاء حتي الخميس حيث يناقش' الكيانات النظرية مقابل الكيانات الملاحظة' فساهمت إسهاما وافرا في مناقشة هذه القضية وعرض أبعاد لها, وشكرني كثيرا. في يوم الجمعة19 أبريل كان ثمة محادثة عامة يقيمها قسم الفلسفة ويدعو إليها أساتذة من جامعات مختلفة, حيث كانت الدكتورة جوين برادفورد من جامعة رايس وهي جامعة أخري في هيوستن تتحدث عن' مشاكل مذهب الكمالية', وبخلاف عنايتي بمنظور التعددية الذي فاتها, بدا لي أنه قد فاتها أيضا أن أصول هذه القضية تعود إلي ليبنتز الذي أكد أن هذا العالم أكمل عالم ممكن. في يوم الأثنين22 أبريل كان السيمنار الذي أدرته حول موضوع كلاسيكي جدا, وهو مفهوم الفضيلة منذ أن بلوره أرسطو. بدا أساسا متفقا عليه يمكن أن ينطلق منه أو يضاف إليه مفهوم التعددية. وكان يوما متميزا حيث أوضحت لهم أن أرسطو عنصري لايعترف بالثقافات الأخري, بل ولا يعترف إلا بالرجل الأثيني الحر, وأن فكرته عن الفضيلة بوصفها وسطا ذهبيا انتقلت إلي العام الإسلامي, وثمة الآية القرآنية' كذلك جعلناكم أمة وسطا', ومع كل هذا يبدو لي أن الفضيلة في الإسلام أولية ومطلقة ولا يقومها تحديد مكاني أو موضعي...... وانتهيت بتوضيح كيف أن قضية القيمة وتعريفاتها في صلب موضوعات التعددية الثقافية. وكانت المناقشات جميلة وثرية وممتعة, سعدت بها جدا. قضيت بقية هذا الأسبوع, من التاسعة صباحا حتي العاشرة مساء, اقرأ في الدور الثامن من مكتبة الجامعة, المخصص للفلسفة, وأتفقد مصنفاته بلغات أوربية عدة وأيضا باللغتين الصينية واليابانية. وعلي ضخامته أسفت لأنه لا يحوي كتابا واحدا باللغة العربية! علي الرغم من أن الجامعة مكتظة بالطلبة العرب والمسلمين, والكثير من الطالبات المحجبات واللائي يرتدين العباءة السوداء, بعضهن منقبات, وفي قسم الفلسفة إحدي المنقبات وأخبرتني أنها من بنجلاديش, طبعا بجوار طالبات يرتدين ملابس لا تصلح إلا لشاطئ البحر. وحضرت في أحد الأيام عرضا جميلا أقامه الطلبة المسلمون للتعريف بالإسلام شمل أنشطة جيدة وهدايا ومطبوعات توزع مجانا. ومع كل هذا لا كتاب واحدا بالعربية في المكتبة. لذلك شكروني كثيرا حين أهديتهم مجموعة مؤلفات كنت أحملها ووعدوني أن تكون نواة لمصنف كتب عربية في المكتبة. وفي كل هذا كانت جامعة هيوستن تتقبل قضية التعددية الثقافية من حيث هي قضية تشملها تطورات الفلسفة الغربية بعد الحداثية, فضلا عن محاولات القضاء علي التفرقة العنصرية واستيعاب المهاجرين الجدد ومتغيرات الواقع الأمريكي. ذلك أن المثير للدهشة حقا أن جامعة هيوستن كالغالبية العظمي من الجامعات الأمريكية, لا تدرس للطلبة إلا الفلسفة الغربية العلمانية الحديثة التي ينطلقون إليها من الفلسفة الأغريقية, ليدرس الطالب مباشرة الثورة العلمية والحداثة, وتاريخ الفلسفة عندهم هو تاريخ القرون17 و18 و.19 ليكون التركيز علي القرن العشرين ويدرس الطالب فروع فلسفة الأخلاق والسياسة والعلم والعقل واللغة والفن..... بمعني أن الطالب قد يتخرج دون أن يعرف أن هناك شيئا اسمه الفلسفة الإسلامية أو الفلسفة اليهودية أو الفلسفة المسيحية. ولا يتعرضون للعصور الوسطي مطلقا, اللهم إلا في هامش للإشارة إلي أصول تاريخية لفكرة ما. لمزيد من مقالات د.يمنى طريف الخولى