في سنة1975 م نشر أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية الدكتور ناصيف نصار كتابا بعنوان( طريق الاستقلال الفلسفي), واعتبره في عبارته الشارحة أنه سبيل الفكر العربي إلي الحرية والإبداع, وقد لفت هذا الكتاب في وقته انتباه المشتغلين بحقل الدراسات الفكرية والفلسفية في المجال العربي, وعرف به المؤلف, وظل اسمه يتردد في الكتابات الفلسفية العربية بوصفه صاحب مقولة الاستقلال الفلسفي. في هذا الكتاب حاول الدكتور نصار رد مختلف المواقف من تاريخ الفلسفة حسب وضعية الفلسفة في الثقافة العربية المعاصرة إلي موقفين: موقف التبعية وموقف الاستقلال, والمصنفون علي موقف التبعية في نظره ينقسمون إلي قسمين: قسم تابع لتاريخ الفلسفة الوسيطة, وقسم تابع لتاريخ الفلسفة الغربية المعاصرة. وهؤلاء علي اختلاف نزعاتهم يعتبرهم نصار أهل اقتباس أكثر مما هم أهل ابتكار, وحين يميز بينهم يري أن التابعين لتاريخ الفلسفة الوسيطة هم علي العموم أشد تقليدا ومحافظة وأقل تنوعا, ومثاله الأبرز علي أصحاب هذه النزعة هو الدكتور يوسف كرم الذي عرف بنزعته الأرسطية, ودعا إلي ضرورة الرجوع إلي فلاسفة القرون الوسطي, والتمسك بأفكارهم, والرد علي المذاهب الحديثة. وأما التابعون لتاريخ الفلسفة الغربية المعاصرة, فإنهم ينطلقون في تصور نصار من واقع تفوق الحضارة الغربية, ومن ضرورة إتباع مسالكها للنهوض بمجتمعات العالم العربي من حالة الجمود والتخلف, وإذا أردنا تحقيق نهضة فكرية فعلينا في منطق أصحاب هذه النزعة أن نأخذ بفلسفات العصر الحاضر, وهي فلسفات غربية. والمثال الأبرز عند نصار علي أصحاب هذه النزعة هو الدكتور زكي نجيب محمود, الذي دعا في كتابه( شروق من الغرب) الصادر سنة1951 م, إلي أن نندمج في الغرب اندماجا كليا في تفكيرنا وأدبنا وفنوننا وعاداتنا ووجهة نظرنا إلي الدنيا, وأن تكون مصر قطعة من أوروبا, وهذا هو الجواب الواحد والواضح عنده, ولا تردد فيه ولا غموض لمن أراد أن ينظر إلي الأمور نظرة جادة حازمة. في حين يري نصار أن التفهم العميق لمشكلة الحضارة في العالم العربي, يكشف عن حاجة الإنسان العربي إلي فلسفة جديدة في العمل, وضرورة الوقوف موقف الاستقلال من النظريات التي أنتجها تاريخ الفلسفة في العصور القديمة والحديثة هذا من جهة, ومن جهة أخري أن النهضة الحضارية التي تسعي المجتمعات العربية إلي تحقيقها, لا تكون في نظره متينة البنيان إلا إذا تأسست علي استقلال فلسفي, ولا شيء يمنعها من تحقيق هذا الاستقلال إذا أرادت وعرفت الطريق. والفكرة الأساسية التي انتهي إليها نصار, هي ضرورة إبداع نظرة فلسفية انطلاقا من مقولة الفعل, أو من مقولة الوجود التاريخي, وإنه لم يكن بصدد تقديم مذهب فلسفي معين, وإنما أراد رسم طريقا يمكن أن يؤدي إلي تكوين فكر فلسفي عربي جديد. هذه الرؤية بطبيعة الحال ما كان بالإمكان أن تمر بسهولة في المجال الفكري والفلسفي العربي, دون أن تتعرض لنقد من هنا وهناك, وبصور مختلفة. ولعل أشد نقد تعرضت له هذه الرؤية, جاء من الباحث المغربي الدكتور كمال عبد اللطيف التي وصفها بوهم الاستقلال الفلسفي, وأنها لا تشكل في نظره إلا مجرد رد فعل تبسيطي, وصاحبها لم يلتزم بموقف دقيق حول معني الاستقلال الفلسفي وكيفية تحقيقه, ومعتبرا أنه لا يمكن تجاوز التبعية العمياء عن طريق المناداة بالاستقلال الفلسفي, فهذه الدعوة تتطلب الإجابة علي مسألة أسبق منها, وهي: هل يعني الاستقلال التضحية بمكتسبات ونتائج تاريخ الفلسفة. أما النقد الهادئ, فقد جاء من الباحث السوري الدكتور أحمد برقاوي في كتابه( العرب وعودة الفلسفة) الصادر سنة2000 م, إذ بدا له أن فكرة الاستقلال هي من أكثر الأفكار اعتمالا في نفوس النخبة العربية, وكما انسحبت علي صعد اجتماعية واقتصادية وسياسية, انتقلت كذلك إلي الفلسفة عبر فكرة الاستقلال الفلسفي. ويضيف برقاوي أنه لا يجد فرقا بين قول نصار طريق الاستقلال الفلسفي, وطريق الإبداع الفلسفي, وذلك لأن الإبداع الفلسفي هو الذي يعطي سمات الفلسفة المستقلة. وما يتفق فيه برقاوي مع عبد اللطيف, هو أن وراء هذه الرؤية يكمن هاجس الهوية في تعبير برقاوي, وتحقيق نوعا من الأصالة وتأكيد الذات في تعبير عبد اللطيف. والذي أراه أن هذه الرؤية عبرت عن دعوة حسنة في ذاتها, وكان من السهل التوصل إليها, ولكن المشكلة ليست في نقد التبعية, وإنما في إنجاز القدرة علي تحقيق الاستقلال الفلسفي, وبلوغ الطريق إليه, وقد وجدت أن الطريق الذي يراه الدكتور نصار لن يصل بنا إلي الاستقلال الفلسفي, لأنه لا يستند في نظري علي موقف فكري واضح ومتماسك, فلا يمكن الاستقلال الفلسفي عن فلسفات الغرب الوسيطة والحديثة, من داخل فكر الغرب نفسه. لمزيد من مقالات د. زكى الميلاد