لا أعتقد بوجود أي اختلاف بين المصريين أيا ما كانت معتقداتهم وانتماءاتهم السياسية وأيا ما كانت مستويات تعليمهم وثقافتهم, علي أن التقدم بكل أنواعه, وامتلاك كل أنواع القوة بكل أنواعها, بما يعطي لبلدنا القدرة والاقتدار والمكانة العليا بين الأمم هدف وغاية يجب أن نسعي إليها جميعا بشتي السبل والوسائل. لكن يبقي السؤال المهم والمحوري هو كيف يمكن تحقيق هذا التقدم المنشود؟. الأمر المؤكد أن التقدم لا يمكن أن ينشأ من فراغ أو يتحقق في فراغ. فالتقدم ليس عملية تلقائية, ولكنه في حاجة إلي إرادة, إرادة قوية قادرة علي تحقيقه, قادرة علي أن تتغلب علي كل العقبات والمعوقات يمكن أن نطلق عليها إرادة التقدم. كما أن التقدم لا يتحقق في فراغ, فهو في حاجة إلي البيئة الحاضنة القادرة علي توفير كل شروطه, وأولها النظام السياسي الكفء, والمؤسسات السياسية والاقتصادية والعلمية اللازمة. وثانيها توفير الوعي بالتقدم الذي هو محصلة تفاعل مؤسسات التربية والتعليم والثقافة والإعلام وغيرها من مؤسسات التنشئة الرشيدة. كما لا أعتقد أن هناك منصفا, سواء داخل مصر أو خارجها, في مقدوره أن ينكر أن الشعب المصري, عبر ثورتيه الهائلتين المبدعتين في25 يناير2011 و30 يونيو2013, قد استطاع أن يعبر عن إرادة ورغبة في التقدم غير مسبوقتين. هذا يعني أن مصر أضحت مهيأة أكثر من غيرها للولوج في غمار التقدم والانفلات من قيود التخلف, ولا يبقي إلا صنع مؤسسات التقدم: مؤسسات سياسية وعسكرية وأمنية واقتصادية وعلمية وتكنولوجية وثقافية لبناء الدولة العصرية المتقدمة, ولحسن الحظ أن الفرصة الآن مواتية لبناء هذه المؤسسات من خلال الدستور الذي مازال في مرحلة الإعداد, الذي يجب أن تكون فلسفته العليا هي وضع أسس هذه المؤسسات, وصياغة القيم والمبادئ الحاكمة القادرة علي ضبط عملية التقدم في الاتجاه الذي يحقق أهداف الثورتين في دولة الحرية والعزة والكرامة. من بين هذه المؤسسات المهمة التي يجب أن تجد لها مكانا بارزا في الدستور الجديد تلك المؤسسة التي يمكن أن تكون وعاء للفكر وللتخطيط الإستراتيجي في مصر. ولسوء الحظ هذه المؤسسة ليس لها أي وجود فعلي حتي الآن في وقت تواجه فيه مصر والدول العربية الشقيقة تحديات تفوق الخيال, تحديات ناتجة من مصادر تهديد للمصالح الوطنية المصرية العليا والمصالح القومية العربية الإستراتيجية من داخل مصر والدول العربية ومن البيئة الإقليمية والدولية المجاورة, في وقت تتآكل فيه مكانة النظام العربي, وفي وقت أصبحت فيه مصر ومعظم الدول العربية أكثر قابلية للاختراق الخارجي, وفي وقت أصبح في مقدور قوي إقليمية مجاورة أن تتدخل في شئوننا العربية الداخلية وتؤثر سلبا علي مصالحنا وتهدد أمننا وفي وقت تجري فيه إعادة تقاسم المصالح علي أرضنا العربية بين القوي الدولية الكبري. كيف يمكن أن نتفاعل مع هذا كله بما يحمي مصالحنا العليا دون أن تكون لنا بوصلة إستراتيجية تحدد لنا إلي أين نتجه ومع من نتعاون ومع من نتنافس ونتصارع ولماذا؟ وعبر أي أدوات ووسائل ووفق أي أولويات؟ هذه البوصلة الإستراتيجية يصعب امتلاكها دون امتلاك الوعي الإستراتيجي اللازم, الذي هو بحق محصلة تراكم معرفي, وإنتاج نخبة من الكفاءات الوطنية المقتدرة في كل مجالات الفكر الإستراتيجي: العسكري والسياسي والاقتصادي والعلمي والثقافي. مثل هذا الوعي لن يكون له وجود ولن يستطيع أن يبدع ويتطور إلا ضمن مؤسسة وطنية وظيفتها التفكير والتخطيط الإستراتيجي. وعبر مناخ ثقافي مؤمن بالحرية والإبداع الفكري والعلمي. لقد غابت مثل هذه المؤسسة إما عمدا أو سهوا طيلة العقود الماضية عن نظامنا السياسي الذي قام علي أساس احتكار السلطة, ومن ثم احتكار المعرفة دون السماح بأدني درجة من المشاركة الوطنية والشعبية في إدارة الحكم, وكانت النتيجة هي ما عرف بشيوع ظاهرة شخصنة السلطة أو شخصنة الحكم في شخص الرئيس دون غيره حتي من أقرب مساعديه, وأصبح هو, وحده, الذي يضع ويتخذ القرار, والشعب هو الذي يدفع أثمان الأخطاء الفادحة في احتكار الرئيس إدارة الدولة, وفي ظل غياب الوعي والتخطيط الإستراتيجي, وفي ظل غياب المشاركة السياسية الحقيقية والفعالة. لم يعد كل هذا النهج والممارسات الخاطئة مسموحا به الآن, ليس من منظور الدعوة إلي ديمقراطية القرار السياسي فقط, ولكن أيضا من خطورة استمرار هذا النهج الانفرادي في إدارة الدولة في غيبة من مؤسسة التخطيط الإستراتيجي والفكر الإستراتيجي. لذلك فأنا أتقدم برجاء إلي السيد الرئيس عدلي منصور رئيس الجمهورية وإلي السيد الفريق أول عبد الفتاح السيسي النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة أن يتدخلا بثقلهما لدي لجنة الدستور لوضع صياغة متكاملة لهذه المؤسسة ضمن مؤسسات الحكم الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية هي مؤسسة مجلس الأمن القومي الذي يكون منوطا بها, عبر ثلاثة مجالس فرعية هي: المجلس الأعلي للدفاع والأمن والمجلس الأعلي للسياسة الخارجية والمجلس الأعلي للاقتصاد والتنمية المجتمعية الشاملة, وضع الإستراتيجية العليا للدولة في مجالات الدفاع والأمن والسياسة الخارجية والاقتصاد والتنمية الشاملة والإشراف علي تنفيذها عبر هذه المجالس وكوادرها الوطنية عالية الكفاءة. وقد تشرفت بتقديم اقتراح بنص كامل لهذه المؤسسة علي نحو يختلف كليا مع ما ورد في اقتراح لجنة العشرة بخصوص مجلس الدفاع الوطني( المادة173), ومجلس الأمن القومي( المادة175) وجري تسليم النص إلي لجنة الخمسين وإلي السيد رئيس لجنة نظام الحكم, لكن للأسف لم يفعل هذا النص ولم يدرج, علي ما اعتقد, في مناقشات لجنة نظام الحكم, أو لجنة الخمسين. وأخشي ما أخشاه أن يخرج الدستور للاستفتاء عليه دون أن يؤسس لمصر عقلا إستراتيجيا يخطط لها حاضرها ومستقبلها في وقت نأمل فيه أن نحقق التقدم الذي نأمله بديلا للتخلف المفروض, وأن نمتلك فيه إرادتنا الحرة المستقلة في مواجهة إرادة الهيمنة الخارجية بكل صورها, كي تعود مصر رائدة وقائدة وتستعيد دورها العربي والإقليمي ومكانتها المنشودة. لمزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس