تمر علينا خلال هذه الأيام ذكري هجرة رسول الله صلي الله عليه وسلم, من مكةالمكرمة إلي المدينةالمنورة, والتي كانت فتحا ونصرا للدعوة, وبداية لتأسيس أول دولة تقوم علي العدل والمساواة والرحمة, وأرست دعائم المواطنة والدولة المدنية. ودعا علماء الدين إلي ضرورة الاستفادة من دروس الهجرة, في تدعيم قيم الحب والانتماء للوطن في نفوس النشء, وحسن التخطيط والأخذ بالأسباب, في جميع الأعمال والمشروعات حتي نصل إلي الهدف الذي نصبو إليه ويتحقق الأمن والرخاء والتقدم للجميع. يقول الدكتور عبد الغفار هلال, الأستاذ بجامعة الأزهر, ان الهجرة النبوية الشريفة, تعتبر أهم حدث في تاريخ الأمة الإسلامية, وليس أدل علي ذلك من أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه, حينما أراد أن يؤرخ للتاريخ الإسلامي اختار يوم الهجرة, ليكون بداية للتقويم, مشيرا إلي أن الهجرة فتحت أفقا واسعا لانطلاق الدعوة التي عاشت نحو ثلاث عشرة سنة في مكة لا تعرف إلا السر والخوف من أذي وبطش صناديد قريش ضد المستضعفين من المسلمين الذين لم يحمهم وينصرهم علي عدوهم منصف أو عاقل, لذا كانت الهجرة متنفسا عبر به هؤلاء المستضعفون من مكان الخوف والنصب إلي دولة تأسست علي العدل والرحمة والشوري في كل الأمور, بعيدا عن الدولة الدينية, التي ليس لها أي مفهوم في الإسلام. الحقوق والواجبات وأشار هلال إلي أن الهجرة أسست وأرست مبادئ مهمة تصلح لكل زمان ومكان, منها العدل والمساواة واحترام حقوق الجميع دون تفرقة بين اسود أو ابيض أو غني أو فقير او عربي واعجمي, إلا بالتقوي, كما جاء في الحديث الشريف, كما أرست الهجرة مبدأ المواطنة ومعناه بالمفهوم البسيط ان يعيش جميع المواطنين, مسلمين ومسيحيين ويهود, في وطن واحد لهم كل الحقوق وعليهم جميع الواجبات تجاه بلدهم ووطنهم, وهذا ما عبرت عنه وثيقة المدينة التي تعرف بأول وثيقة عرفتها البشرية لحماية حقوق الإنسان, وقد ابرمها رسول الله صلي الله عليه وسلم مع ساكني المدينةالمنورة, من اليهود وأصحاب الديانات الأخري وبين المسلمين, بان يدفع عنهم كل معتد وان يدافعوا معه عن المدينة, بالإضافة إلي أن حرية العبادة تكون مكفولة للجميع, وبهذا يكون قد امن الرسول صلي الله عليه وسلم, أفراد الدولة من غير المسلمين. وأوضح انه بالنسبة للمسلمين, فقد قام عليه الصلاة والسلام بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار, وقد ضرب الجميع القدوة والمثل في الإيثار وحب أخيه, وليس أدل علي ذلك من عرض احد الأنصار علي احد المهاجرين اختيار إحدي زوجاته فيطلقها له ليتزوجها, وان يقاسمه نصف ماله, وهذا يعرف من قصة عبد الرحمن بن عوف مع أخيه من الأنصار سعد ابن الربيع حيث خيره سعد في اختيار إحدي زوجاته فيطلقها ليتزوجها عبد الرحمن بن عوف, وأراد أن يعطيه نصف ماله, ولكن عبد الرحمن بن عوف رفض ذلك وقال له: بارك الله لك في زوجك ومالك, ولكن دلني علي السوق, فأصبح بعد ذلك من كبار تجار المدينة, وهنا درس وعبرة لمن يريد ان يفهم ويأخذ الأسوة في الإيثار لأحب الأشياء إلي قلب ونفس الإنسان وهي المال والزوجة والضيعة, مما يدل علي بلوغ هؤلاء الصحابة من الرجال والنساء أعلي وأسمي درجات الحب في الله الذي لا يدانيه أي أمر آخر مهما عظم أو كبر, وقد سجل القرآن الكريم ذلك, فقال تعاليوالذين تبوءو الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون. الانتماء للوطن من الدين ويري الدكتور طه أبو كريشة, عضو هيئة كبار العلماء, ان دروس الهجرة المباركة, تظل باقية إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها, من هذه الدروس تعلم قيمة الانتماء ومحبة الأوطان, ونلاحظ ذلك من كلام رسول الله صلي الله عليه وسلم, حينما اشرف علي الخروج من مكةالمكرمة في طريقه مهاجرا الي المدينةالمنورة, حيث نظر اليها وفي عينيه دموع المفارق للحبيب, وقال بكلمات حانية: والله اني لأعلم انك أحب بلاد الله إلي الله وأحب البلاد إلي قلبي ولولا أن اهلك اخرجوني منك ما خرجت, وعلينا أن نتخيل ونتصور المشاعر الجياشة في قلب النبي صلي الله عليه وسلم في تلك اللحظة, ولم لا وهي مسقط رأسه وبلده التي كبر وترعرع في وديانها وجنبات أركان بيتها العتيق, وهذا يدلنا علي مدي شدة الانتماء لوطنه مكة, علي الرغم انه قوبل بعنت وأذي شديدين من أهلها. وأشار إلي أن الدرس الذي نتعلمه من ذلك الموقف, هو التذكير بضرورة إيجاد العلاقة الروحية والانتمائية والنفسية بالمكان الذي ولد وتربي ونشأ فيه الإنسان, وقيمة الحب والانتماء للوطن تقتضي من الإنسان أن يكون حاميا ومحبا ومدافعا عنه ومفتديا له بكل غال ونفيس, ومجاهدا وعاملا بكل ما في استطاعته وقدرته, والمحافظة علي كل ما فيه من مقدسات, وتقديم مصلحة الوطن علي المصالح الخاصة الضيقة, حتي يتحقق لهذا الوطن التقدم والرفعة والرخاء والتنمية لجميع أبنائه, موضحا أنه يجب علي الأسرة أولا والمؤسسات التربوية والتعليمية والإعلامية ثانيا, أن تغرس قيمة حب الوطن والانتماء له في نفوس النشء, حتي يتربوا عليها منذ الصغر, وتكون ملازمة له في شبابه, فلا يقع فريسة لأفكار تنحرف به والمجتمع عن المسار الصحيح. وأكد أبو كريشة أن من الدروس المستفادة من حادث الهجرة, حسن التخطيط لأي عمل يقوم به الإنسان في حياته, سواء كان هذا العمل صغيرا أو كبيرا, حتي يصل إلي الهدف الذي يصبو اليه, فقد أحسن رسول الله صلي الله عليه وسلم واتخذ جميع الأسباب التي أوصلته في النهاية إلي غايته والوصول إلي المدينةالمنورة بسلام وأمان, وذلك من خلال الاستعداد المسبق للهجرة, فقد درب أصحابه علي أسلوب الهجرة من مكة, حينما أمرهم بالهجرة الأولي إلي الحبشة, كما أحسن التخطيط حينما وزع الأدوار, فأبو بكر الصديق كان الصاحب للرسول صلي الله عليه وسلم في هذه الرحلة, وعلي بن أبي طالب ينام في فراشه ويتغطي ببردته ليلة الهجرة كنوع من التمويه علي المشركين, ويقوم علي بن ابي طالب بعد ذلك برد الأمانات التي كانت عند رسول الله صلي الله عليه وسلم لأهلها, كما قامت أسماء بنت أبي بكر الصديق بحمل الطعام له ولأبيها حينما مكثا في غار ثور, قبل الانطلاق إلي المدينة, واتخذ الرسول صلي الله عليه وسلم عبد الله بن أريقط دليلا له في طريق الهجرة وهو غير مسلم, وفي هذا دليل علي انه يجوز الاستعانة والاستفادة بغير المسلمين الذين لديهم خبرة, في الأمور الي تتحقق فيها الفائدة للإسلام والمسلمين, فما أحوجنا إلي أن نتعلم ونستفيد من دروس الهجرة في حياتنا, حتي تعود الريادة إلي امتنا كما كانت سابقا.