الحضارة العظيمة لا يهزمها عدو من الخارج.. إلا إذا دمرت نفسها من الداخل المؤرخ الأمريكي ويل دورانت صاحب قصة الحضارة مثل حجر طائش يشق الهواء بلا استئذان ليبدد سكون نهر نائم استسلم طويلا لمساره الاجباري.. هبط التقرير الذي نشرته صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية أخيرا, حول خريطة مفترضة وصادمة لعالم عربي جديد, علي الرؤوس في منطقتنا ليوقظ الكثيرين ويحرك موجات من المخاوف و ردود الفعل شرقا وغربا. والتقرير الذي كتبته روبين رايت وهي مراسلة صحفية مخضرمة وقديرة تخصصت لسنوات في شئون الشرق الأوسط وألفت كتبا عن أحوال العرب والمسلمين يدعو بجرأة وصفاقة إلي تخيل شرق أوسط جديد بخرائط بديلة لخطوط الحدود التي استقرت لنحو قرن( منذ اتفاقية سايكس بيكو مايو6191), وفيه تشرح رايت كيف يمكن افتراضا لخمس دول عربية, أن تتحول تدريجيا إلي41 دويلة, أو أكثر, إذا ما اجتمعت عليها ضغوط الفرقة والانقسامات الدينية والعرقية والمذهبية والقبلية ومعارك الصراع علي الموارد, لتعيد رسم حدودها وتمزقها إلي كيانات أصغر. مثلا, وبموجب هذا التصور المفاجئ الذي اعتبره البعض في الغرب تهورا غير محسوب أو مغامرة جسورة فإن سوريا المنكوبة منذ شهور بحرب أهلية, مرشحة بقوة لأن تتفكك إلي3 دويلات: واحدة للسنة, وأخري للعلويين, وثالثة للأكراد.. والوضع نفسه يسري علي العراق أكرادا وسنة وشيعة. أما السعودية فإن سيناريو رايت يدخر لها توقعات كابوسية تفتتها إلي5 دول صغيرة: أولها وهابية في وسط شبه الجزيرة, والأربع الباقيات في المناطق الشمالية والجنوبية والشرقية والغربية للمملكة.. وبالمثل سيعود اليمن يمنين كما كان قبل الوحدة, في حين تنقسم ليبيا تحت وطأة صراعات سياسية وقبلية إلي اثنتين أو ثلاث دويلات شرقا وغربا وجنوبا. وربما يلفت نظرك بعد ذلك أنه لم تكن هناك في التحليل إشارة من أي نوع إلي مصر أو الجزائر وغيرهما من الدول العربية التي استثناها التقرير من ويلات التقسيم دون أسباب.. أو ربما لأسباب! خلال ساعات و بمجرد نشر مقال رايت مصحوبا بالخرائط الجديدة للدول الخمس, انفجر طوفان من الانتقادات والشكوك العربية المعتادة في هذه الأحوال, ومعها عواصف غضب وكلام كثير مكرر عن أجندات خارجية ومؤامرات كونية وامتد الجدل إلي صفحات الفيس بوك ليناقش خبث التوقيت والنوايا. وفي مقابل الصمت الرسمي الكامل في البلدان الخمسة والتجاهل التام في باقي الدول التي لم يرد ذكرها من الأساس, فإن صحفا ومعلقين افترضوا فورا أن هذه رسالة أمريكية مباشرة, وأن نيويورك تايمز الصحيفة الأولي في العالم مكلفة بتبليغها بل إن البعض تعامل مع التقرير وكأن قرارا أمريكيا بالتقسيم قد صدر فعلا ولم يبق إلا التنفيذ!. وكان مثيرا للدهشة أنه وعلي مدي أسبوعين كاملين انشغل فيهما العرب بخراف العيد واجازته, لم تكن هناك مناقشة واحدة جادة تساعدنا علي أن نعرف: هل كان تحليل التايمز مجرد أفكار سارحة في الهواء, واجتهاد شخصي أكاديمي بريء(!) لصاحبته الباحثة أيضا في معهد السلام الأمريكي أم أنه كان إنذارا مستترا لكل من تسول له نفسه التمرد علي أوامر أمريكا سواء كان اسمه في قائمة الدول الخمس أو خارجها. لكن الأغرب أنه بدلا من محاولة الفهم, كانت هناك تلك النبرة الخانعة المألوفة التي تسربت إلي تعليقات من هنا وهناك معتبرة أن كل ما يأتي من أمريكا قدر لا راد لقضائه, فضلا عن كلام كثير رخو ويا للهول عما سيفعلونه بنا!. والمشكلة مع هذا النوع من التحليلات هي أنك لا يمكنك أن تقبله كله أو ترفضه كله. بالذات وأنت تعرف عن يقين أن الأمر الواقع في حالة منطقة مثل العالم العربي ظلت لعقود أسيرة للعنة صراعات ونكسات مزمنة أسوأ بمراحل من أي خرائط مفروضة أو مخططات شريرة. ومع ذلك فإن كثيرا مما ذهبت إليه رايت وبنت عليه خرائطها حتي لو لم يكن يعجبنا إنما يعكس بدرجة أو أخري حقائق أكثر مرارة علي الأرض ولو لم نكن نريد التسليم بها هي ومعها ميراث مؤلم وصعب من الخيبات والهزائم ظلمنا فيها التاريخ وعاندتنا فيها الجغرافيا وشلت أيدينا فيها مرارا الثغرات الكثيرة في دروعنا وفي أدائنا وفي طريقتنا في التفكير والحركة والحكم علي الأمور وتخطيطنا للمستقبل أو غياب هذا التخطيط!. لهذا كله فإن بعض القلق لا الاستكانة أو الجزع مما يجري سيكون مفيدا للغاية لو أنه دفعنا إلي تغيير ما بأنفسنا والي أن نفتح عيوننا علي صورتنا كما هي, دون أن نلوم المرايا علي ما نراه فيها. وربما تكون أفضل بداية هي أن نعرف أنه لا شيء يمكن أن يحدث لنا إلا إذا سمحنا بحدوثه, وأن نعترف بشجاعة بما فينا من عيوب يتسرب منها أعداؤنا كالنمل, وتجعلنا نحن أسوأ خصومنا قبل أي أحد آخر.. نحن وقصر نظرنا وأنانيتنا وخلافاتنا البلهاء التي ضيعت مما من قبلنا.. ثم أن نتعلم من غيرنا وممن يكرهوننا أيضا كيف نوفر لشعوبنا أوطانا تليق بهم وبأحلامهم وحياة تكفل حرية وعدلا وكرامة وفرص رزق متكافئة. بهذا وغيره يمكننا أن ننزع فتيل أي قنابل للتقسيم وأن نقطع الطريق علي أي محاولات لتشكيل منطقتنا علي غير إرادتنا بما يعفينا من المصير الذي نكتفي فيه بالانتظار والحسرات والفرجة.. وتحسس الأعناق انتظارا للسيف النازل في أي لحظة! لمزيد من مقالات عاصم القرش