إذا كانت الهوية علي المستوي الفردي تعني وحدة الفرد وخصوصيته وتميزه عن غيره, فإنها تعني بالنسبة للأمم مجموعة الأحاسيس الذاتية لأي قوم لهم تجارب مشتركة وسمة أو سمات ثقافية مشتركة, وتتمثل مصادر الهوية الثقافية المشتركة في عقيدة هذا الشعب وقيمه الكبري وذاكرته التاريخية وعبقرية المكان الذي يعيش فيه. هذا تعريف جامع لمفهوم الهوية. ولهذا أتعجب كثيرا وأنا أتابع تلك الآراء التي تختزل الهوية في العقيدة فقط ولا تري هوية لمصر إلا منذ القرن السابع الميلادي, ولكن أشد ما يحزنني أن اقرأ هذه الاراء لأساتذتي في التربية وأتعجب كثيرا عندما أجدهم يختصرون التاريخ المصري في الفتح العربي الإسلامي و يستبعدون ما سبق هذا التاريخ, فالحضارة المصرية القديمة غير محسوبة ومعدومة الأثر, وكأن مصر قبل الفتح الإسلامي أرض فضاء بلا شعب ولاقيم ولا تربية ولا ثقافة ولاحضارة ولا هوية. لقد جئت إلي حقل التربية من خلفية جغرافية تعلمت فيها معني وحدة الأرض وعبقرية المكان, وأن مصر هبة النيل, ولكني تعلمت من التربويين أن الحضارة هي هبة المصريين للعالم, فمصرمهد الحضارة والرقي قبل الميلاد, وأن الفكر التربوي نبت في الشرق, وكانت الحضارة المصرية هي أم هذه الحضارات وفجرها الذي أشرق وأضاء بداية العصور التاريخية المكتوبة, وأن مصر أول أمة عرفت القراءة والكتابة وأنها اصبحت مقرا للعلم والعلماء والباحثين وطلاب المعرفة, وكانت مراكز العلم في معابد مصر بمثابة الجامعات, وكانت جامعة أون( بعين شمس) أشهر جامعات الزمان فيها تعلم من علم العالم( مثل سولون وأفلاطون..) هم من علموني انه عندما صبغت الثقافة المصرية بالصبغة الدينية الإسلامية فقط منذ القرن الثالث عشر وانغلقت علي نفسها, صبغت التعليم بلونها وقيمها واتجاهاتها وأساليبها ليصبح تعليما دينيا أخلاقيا لا يعد الفرد لهذا العالم الذي يعيشه, مما أدي إلي تجميد الحياة ومن ثم تجميد الثقافة,ودخلت مصر في قبو من الجهالة وسوء الحال. ولقد ظهر ذلك جليا عندما تم تعيين وال علي مصر وكان من أصل رومي علق قائلا: المسموع عندنا في الديار الرومية, أن مصر منبع الفضائل والعلوم,وكنت في غاية الشوق إلي المجئ اليها, فلما جئتها, وجدتها كما قيل تسمع بالمعيدي خيرا من أن تراه وفي ذلك اشارة واضحة الي ما اصابنا من تدهور علمي وحضاري. هم من علموني أنه لايجب أن ننسي مهما حدث لنا أننا نملك ظهيرا حضاريا وثقافيا لايملكه سوانا, وأن التاريخ لا يموت وثقافة الأجداد ممتدة في ثقافة الأحفاد بداية من الفراعنة وصولا إلي القرن الحادي والعشرين, فالهوية المصرية ليست وليدة القرن الأول الميلادي ولا القرن السابع الميلادي, بل إن هوية مصر وجدت قبل الميلاد بمئات السنين. وهم من علموني أن أخطر ما يهدد الأمم هو ضياع ماضي المرء وهويته التاريخية والانصهار في بوتقة الحاضر. كيف بعد أن تعلمت معني الهوية, ومعني الحضارة, ومعني أن تصبح الدولة بوتقة تنصهر بها كل الثقافات الفرعية والوافدة لتشكل مجتمعا متجانسا متناغما مصريا خالصا يستمد تفرده من عقيدته وقيمه الكبري وذاكرته التاريخية وعبقرية المكان الذي يعيش فيه, كيف يطلبون مني أن اقتنع باختزال الهوية المصرية في العقيدة الإسلامية, وبداية تاريخ الحضارة المصرية منذ القرن السابع, كيف لا أري في تاريخ الفراعنة غير قصة فرعون وفي تاريخ مصر القبطية غير نهايته بالفتح العربي! يقول مايك كرانج في كتابه الجغرافيا الثقافية إن من مظاهر الاستمرارية في الحضارة, طريقة واحدة تعزز فيها فكرة الثقافة القومية أو الأعراف المتناسقة, وأن هذه التقاليد الموروثة تعتبر موسيقي سرية أو موسيقي مخفية لا تسمع إلا من قبل اولئك الذين يوجدون داخل هذه الثقافة. وأنا أري أن الحضارة المصرية استطاعت أن تحافظ علي استمراريتها رغم الإخفاقات, وذلك من خلال حرص المصريين علي الحفاظ علي جوهر هويتهم والتي تمثلت في التقاليد الموروثة التي حشدت الماضي لتوفر جوهرا مدفونا يمثل تلك الموسيقي السرية المصرية الخالصة, هذه الموسيقي بدأت بترانيم العبادة بمعبد امونو امتدت إلي تراتيل الصلاة بكنائس الإسكندرية وانتهت بمآذن القاهرة, اذا انصت اليها تجدها سيمفونية لم يدخل إليها النشاز إلا عندما ترتفع أصوات لتتساءل عن الهوية المصرية. أساتذتي بفضلكم أنا اؤمن أنه إذا كانت هناك أمة في العالم محددة الهوية دون التباس فإنها الأمة المصرية, أول أمة ظهرت في تاريخ البشرية.. أساتذتي لاتفقدوني إيماني بما تعلمته. لمزيد من مقالات د. بثينة عبد الرؤوف رمضان