تتناسب السياسة الخارجية عموما بشكل تفاعلي مع ظهيرها من الأدوات المتاحة, الناعمة وغير الناعمة, وبمدي قدرة الدولة علي تفعيل تلك الأدوات علي نحو مؤثر وفعال. في هذا السياق, يجري تفعيل القدرات الممكنة, وليست الحقيقية بالضرورة لاعتبارات الردع أو القانون بصفة خاصة لتلك الأدوات, علي نحو ثنائي أو جماعي أو مؤسسي, من خلال واحد أو أكثر من مسارات أربعة هي التحالف, الاحتواء, الاحتواء بطعم التحالف أو المواجهة. وبقدر تعلق الأمر بالإرهاب, فإن ذاك السلوك الإجرامي فعل شيطاني لا يعرف وطنا ويعادي فكرة الدولة وينكر مبادئ المواطنة; لا دين له لأنه يصطدم مع القيم النبيلة للأديان كافة ويخاصم أصولها, ولا يقيم وزنا لقانون لأنه يدوس قواعده ولا يتعايش معه. لكنه بات ظاهرة فرضت نفسها, وتشكل لمواجهتها تحالفا دوليا, عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001, في قلب مدينة نيويوركالأمريكية. لقد شكل ذاك الحدث علامة فارقة لعلها الفجيعة الأبلغ أثرا والأشد إيلاما في تاريخ الإرهاب الدولي المنظم. لقد أصاب هيبة الدولة الأعظم, الأمر الذي ألقي بظلال غائرة علي سياستها الداخلية والخارجية وأفقد الأخيرة التوازن فصارت تتخبط علي غير هدي, واختارت المواجهة. وأعلن الرئيس الأمريكي آنذاك, جورج بوش الابن, من موقع الحدث الحرب علي الارهاب. بهذا الإعلان, باتت مواجهة الارهاب أحد أهم ثوابت السياسة الخارجية الأمريكية, ليس فقط لارتباط الأمر كله بموجبات الأمن القومي, بل أيضا للملمة ما تبقي من هيبة الدولة واستمرار قدرتها علي فرض النفوذ والسيطرة, وتأمين مصالحها الحيوية وتلك المرتبطة بحلفائها. وعقب أحداث تونس, يناير2011, وما تبعها من انتفاضات في مصر, الخامس والعشرين من الشهر نفسه, وتبعتها ليبيا وسوريا, صعدت الجماعات الإسلامية, وفي مقدمتها الإخوان المسلمين وتمكنت من الإمساك بالحكم والاستحواذ علي السلطة في مصر, وبدرجة أقل نسبيا في تونس وليبيا. ومع تعدد الأسباب التي أفسحت المجال أمام تلك الجماعة للقفز علي المشهد, فإن العامل الأهم يكمن في التحول الجوهري للسياسة الأمريكية بتوفير الغطاء السياسي والدعم المادي لتحقيق تلك المفاجأة. وهذه علامة فارقة أخري تحولت معها تلك السياسة من المواجهة إلي الاحتواء. ويلح علينا التساؤل كيف تستقيم الديمقراطية مع الإرهاب؟ وهل من الممكن أن يتعايشا؟ ثم كيف يمكن لدعاة الحرية والتحديث والمعاصرة والأخذ بمعطيات الحضارة والتقدم تبرير احتضان أعداء هذه وتلك من فحول الرجعية الغارقين في ظلام الفكر وأساطير الشعوذة المناهضين لفكرة الدولة الوطنية المدنية الناكرين للحقوق الأساسية للإنسان في المواطنة وتحرير العقل؟! ولماذا هذا التحول الجوهري في واحدة من أبرز ثوابت السياسة الخارجية الأمريكية؟ عاملان جوهريان مترابطان أصابا السياسة الخارجية الأمريكية الشرق أوسطية بالتخبط وعدم التوازن يتمثلان في الحفاظ علي أمن اسرائيل وضمان تفوقها العسكري, بما في ذلك احتكار السلاح النووي. وكان السؤال دوما عن الكيفية التي يمكن بها التمكين لتفعيل تلك الثوابت. وهنا يمكن لنا فهم التحول الأمريكي نحو سياسة الاحتواء مستهدفا بذلك نقل قوي الإرهاب خارج الحدود وإشغالها بعيدا بالقتال والاستقتال علي أمل تصفيتها بجهود ذاتية; إضعاف دول ما يسمي الربيع العربي, وفي مقدمتها مصر باعتبارها الدولة الأم والمحورية في محيطها والإقليم, مع تغذية الفتنة الطائفية وإمكانية إسقاط الدولة المركزية وإفساح الفرص لإمكانات التقسيم; إتاحة فرصة أكبر لتصفية حمساوية للقضية الفلسطينية علي حساب استقطاع جزء من الأراضي المصرية; إعادة ترسيم الحدود ورسم خريطة لشرق اوسط مغاير وممزق يسهل إبتلاعه, واستخدام جماعة الاخوان المسلمين, بوصفها قوة مركزية قادرة علي القيادة والسيطرة, لتطويع التيارات والفصائل الاسلامية الأخري. كان من الطبيعي, والحال كذلك, أن تتخذ الولاياتالمتحدة وحلفاؤها موقفا معاديا لمصر بعد ثورة الثلاثين من يونيو التي أسقطت النظام الذي زرعوه وأنفقوا عليه وساندوه. وأمام هذا التحالف الغربي, المؤيد من دولة إيران الفارسية, رأس الأفعي الاستعمارية, والمدعوم من تركيا ودويلة قطر المتقزمة, جاء الموقف التاريخي المشرف والرد الأقوي والأشد حزما من القوي العربية المساندة لمصر في محنتها وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة. إن فزع أطراف المؤامرة يكشف بوضوح أن مشروعا كان يخطط له بالاشتراك مع جماعة الإخوان المسلمين لخدمة مصالح وأهداف إستراتيجية مشتركة علي حساب سيادة الدولة المصرية. وبات أطراف المشروع يتبادلون الرهان وتواري شعار هلامي خادع ومفرغ المضمون الإسلام هو الحل لمصلحة شعار وهمي مأمول أمريكا هي الحل. وخسروا الرهان وتهاوي المشروع بسقوط أدواته, واستعاد المصريون وطنهم بعد إختطاف. لقد اندحر ذاك التحالف الشيطاني وانكسرت مخططاته ليس فقط علي صخرة وحدة المصريين وتلاحمهم وصلابة إرادتهم وشموخ يعكس معدن أمة تغوص حضارتها أعماق التاريخ, وإنما أيضا قلب موازينه وأضعف فاعليته وأسقطه موقف عربي جسور. نحن أمام جماعة تشكل أفكارها التهديد الأكبر للحضارة الإنسانية وللسلم والأمن الدوليين, إذ تتأسس علي عقيدة مفادها أنها مبعوث العناية الإلهية للخلافة في الأرض, كل الأرض, وحكم البشر, كل البشر. إن ادعاء دولة القطب الأوحد, التي بات انفرادها مهددا بعالم متعدد الأقطاب, وقد وفرت الغطاء السياسي والدعم بكل أشكاله لمجمع الإرهاب الدولي المجنون وغير المسبوق, الاستعماري العابر للحدود, في حربه ضد الدولة والشعب المصري, احترام القانون والمواثيق والنظم الدولية, ودعم التحول الديمقراطي, ومناهضة الفاشية وتجريم ومحاربة العنصرية ومناصرة حقوق الإنسان, شعارات مفرغة المضمون مثيرة للاستخفاف والسخرية وتمثل أعلي درجات النفاق.. أستاذ القانون الدولي لمزيد من مقالات د.عبد الحافظ الكردى