منذ فجر التاريخ عرف المصريون بتدينهم الشديد, ولم يكونوا في يوم من الأيام بحاجة إلي من يزايد علي علاقتهم بالإله الواحد. واتسمت الشخصية المصرية بسمات متفردة,وأصبحت هذه طبعا يعرف به المصريون واستمرت معهم, وبعض هذه السمات كان في التدين والفكر الديني, وبالمقارنة لا نجد هذه السمات عند شعب آخر, فكل الشعوب انقطع حبل حضارتها في فترات تاريخية عديدة إلا مصر, فقد استمرتهذه الدولة في القلب من حضارات العالم ولم تخرج منه قط. وأصبحت النزعة الدينية جزءا لايتجزأ من طبيعة الشعب المصري, وتجاورت الأديان بمصر في تسامح يندر أن يكون له نظير في العالم.وإن المزايدات ومحاولات استغلال الدين في تحقيق مكاسب سياسية تتنافي مع طبيعة الشخصية المصرية. وتقول الدكتورة زبيدة عطا,أستاذة التاريخبكلية الآدابجامعة حلوان وعميدة الكلية السابقة,أن شخصية المصري القديم قد تأثرت بما حولها من نهر صاف رقراق فياض بالخير, وأرض طيبة خصيبة, ورياح مرفرفة نسائمها علي الزرع النضير, وطقس معتدل طوال العام, فتفاعلت هذه الشخصية بما حولها, وانفعلت بها فنتج عن ذلك في نفس المصري القديم الرفق والتسامح, واعتدال الذوق والمزاج, والطيبة والكرم, والصبر والأناة, فكانت هذه الصفات انعكاسا لما حباه به الإله, فراض نفسه علي شكر هذا الإلهعلي أنعمه التي أسبغها عليه, فتعلقت نفسه بهذا الإله الذي يحنو عليه ويرفق به, حينما سلست معيشته وسهلت حياته, فاستقر حول النهر المفيض بالخير يزرع تلك الأرض الخصيبة المعطاءة, ويربي الماشية التي تعينه علي الزراعة, ويبني المعابد والمصانع. ولم يكتف الإله الخالقبهذه النعم التي أنعم بها علي المصري القديم,فأرسل إليه رسله تهديه إلي عبادة هذا الإله, فبعث إليه إدريس وإبراهيم ويوسف وموسي وهارون وعيسي عليهم السلام, فأما إدريس عليه السلام فقد أقام بمصر ورفع منها, ويقال إنه مصري من أهل النوبة, وأما يوسف عليه السلام فقد قضي فيها شطرا كبيرا من حياته ورسالته كاملة في مصر, وأما موسي وهارون عليهما السلام فقد كانا من بني إسرائيل المقيمين في مصر من بعد يوسف عليه السلام, وأما عيسي عليه السلام فقد كانت مصر مهجره, وإبراهيم عليه السلام زار مصر هو وزوجه سارة, فأهدي الفرعون لسارة الأميرة المصرية هاجر. وعلم المصريعقيدة التوحيد والخلق والبعث والنشور والحساب والعقاب من أنبياء الله الذين أرسلهم الله إلي مصر, فجهد في عبادة الإله فابتني المعابد تلك المؤسسة الدينية التي رعت عبادته وطقوسه الدينية وقرابينه التي يقدمها لمعبوده, وظلت تلك المؤسسة الدينيةتحرس دين المصريين في العصر المسيحيفابتني الكنائس, وبعد الفتحالإسلاميكانت المؤسسة الدينية تتمثل في الجامع الأزهر, وقد حافظت المؤسسة الدينية التي تفتقت عن ذهن المصري العبقري علي صلة الأرض بالسماء بدءا من العصر الفرعوني, مرورا بالعصر المسيحي, انتهاء بالعصر الإسلامي, فقد كانت المعابد في العصرالفرعوني, وتلتها الكنائس في العصر المسيحي, وتبعتها الجوامع في العصر الإسلامي, ونشأ عن ذلك أصحاب الكرامات في العصر الفرعوني, والقديسون والشهداء في العصر المسيحي, والأولياء والصالحون في العصر الإسلامي.وانعكست الطبيعة السمحة في المصري في التسامح الديني عندالمصريين فتجاورت الأديان في مصر في تسامح يندر أن يكون له نظير في مصر, حيث أثرت الطبيعة السمحة لجغرافية الوطن في الطبيعة السمحة للشخصية المصرية, فلم تصطرع فيه العقائد والأديان بقدر ما ائتلفت في نفوس المصريين بفضل الدولة المركزية من ناحية, والمؤسسة الدينية من ناحية ثانية, وطبيعة الشخصية المصرية من ناحية ثالثة. ويريالدكتور عبدالرحمن سالم,أستاذ التاريخالإسلاميبكلية دار العلوم,أنالنزعة الدينية جزء لا يتجزأ من طبيعة الشعب المصري, بل لا نبالغ إذا قلنا إنها فطرة مركوزة في الطبيعة البشرية بصفة عامة, ولكنها عند المصريين شديدة العمق والتجذر. وهذا أمر لا تخطئه العين فيالتاريخ المصريالقديم والوسيط والحديث. وآثار المصريين القدماء تدل علي إيمانهم بالبعث والحساب رغم أنهم لم يعبروا عن ذلك بالشكل الذي عبرت عنه الأديان السماوية. وكان إخناتون أمنحتب الرابع- وهو من ملوك الأسرة الثامنة عشرة أول من نادي بفكرة التوحيد في القرن الرابع عشر قبل الميلاد. وحيندخلت المسيحية مصر وجدت بها ملاذا آمنا, وتحمل المصريون في سبيل الدفاع عنها كل صنوف الأذي والاضطهاد التيأنزلها بهم الإمبراطور الروماني دقلديانوس في أواخر القرن الثالث الميلادي, وعرف عصر دقلديانوسبعصر الشهداء, واتخذت الكنيسة المصرية عام284 من الميلاد وهو بداية حكم هذا الإمبراطور بداية للتقويم القبطي. وعندما دخل الإسلام مصر وبدأ ينتشر تدريجيا بين أهلها تعايش المصريون من مسلمين ومسيحيين جنبا إلي جنب, وتجاورت المساجد والكنائس, وتأثر كل طرف بعادات الآخر وتقاليده, وأصبح من المتعذر علي المرء أن يفرق بين مسلم ومسيحي, فقد انصهر الجميع في بوتقة واحدة هي بوتقة الانتماء إلي هذا الوطن الأم. وأضاف الدكتورعبدالرحمن سالم,قائلا: إن تغلغل الروح الدينية في نفوس المصريين جميعا هو ما يفسر هذا التناغم بينهم في مختلف مناحي حياتهم. فالدينفي جوهره تسامح وحبوسلام ورقي في المشاعر الإنسانية. من جانبه يؤكدالدكتوريحيي أبوالمعاطيالعباسي,أستاذ التاريخ والفكرالإسلامي بكلية دار العلوم,أنالتدين المصريارتبطبتاريخ مصر, حيث وجدت ميزة أصيلة في تاريخ مصر وهي تكون الدولة المركزية, وما نتج عن ذلك من فكرة المؤسسات والاستمرار والاستقرار, فأصبح عندنا مجتمع محكوم من مؤسسات سياسية وإدارية وقضائية ودينية, وهذا الملمح لم يوجد إلا في التاريخ المصري القديم, وهذا ما جعل فهم التاريخ المصري القديم ضروريا في كل الديانات السماوية وفهم القرآن الكريم كذلك. وأصل التدين المصريمن الديانات السماوية, وارتبط التدين عند المصريين بالمؤسسات الدينية, ونتجت هذه الفكرة من استقرار الدولة, فنشأ الكهان والمعابد المصرية القديمة التي انتشرت في كل البلدان والقري, فحفظت التدين وجعلت الشعائر الدينية في معظم اليوم.