تعمل الولاياتالمتحدة منذ زمن وتحديدا بعد الحرب العالمية الثانية علي تفتيت وطمس الهويات القومية للشعوب, فعلت ذلك سواء بحروب مباشرة أو بالوكالة أو بالحروب المخابراتية, والامثلة علي ذلك عديدة في أمريكا اللاتينية وأوروبا والاتحاد السوفيتي وآسيا وفي الشرق الأوسط وافريقيا, هو صراع دائم اذن بين أمريكا والهويات القومية تخوضه من أجل الهيمنة والسيطرة علي مناطق نفوذها ومصالحها, وهنا في مصر لم يكن الصراع علي الهوية أقل ضراوة, ذلك الصراع الذي خاضته أمريكا في مصر مباشرة بعد ثورة1952 وكانت قد انتهت لتوها من القضاء علي هتلر, وكانت اليابان قد ركعت أيضا بعد سحقها بالقنبلة الذرية في هيروشيما ونجازاكي, وبعد ثورة يوليو1952 وظهور جمال عبدالناصر علي مسرح الاحداث العالمي بدأت أمريكا في الالتفات جديا لهذه المنطقة من العالم, ولو ان عبدالناصر سار علي نهج الملوك الذين سبقوه وجعل من مصر دولة بلا هوية لما كانت هناك مشكلة علي الاطلاق, لكنه سلك طريقا آخر, طريق عرابي ومصطفي كامل وسعد زغلول, سعد زغلول الذي بزغ نجمه بعد الحرب العالمية الأولي بعد أن نجح في الحصول علي استقلال مصر1923 فحاربته إنجلترا( أمريكا القديمة) بذات السلاح عن طريق زرع إسرائيل في المنطقة, وأهم منه زرع جماعة الإخوان كهوية إسلامية منافسة للهوية القومية. نعود لعبدالناصر الذي أراد ان يجعل من مصر دولة ذات هوية مصرية أولا وعربية ثانيا وافريقية ثالثا ودولة من دول عدم الانحياز رابعا, ولم يكن ذلك بالطبع متفقا مع سياسات أمريكا الطامسة والراغبة دائما في طمس هويات الدول القومية, فمارست سريعا سياسة العصا والجزرة مع الدولة المصرية الوليدة, فكان الدعم في حرب السويس56 ثم التخلي عن تمويل مشروع السد العالي, ثم كانت هزيمة يونيو67 لتقضي علي عبدالناصر وعلي فكرة الدولة القومية في مصر أيضا, وبعد حرب أكتوبر1973, ولأن بزوغ نجم السادات كان انذارا شديدا لهوية قومية جديدة علي وشك الظهور, فكان السلاح نفسه, السيطرة علي السادات وتحجيمه من خلال جزرة السلام مع إسرائيل, واخطر منه عودة ظهور عصا الهوية الإسلامية مجددا كمنافس شرس للهوية القومية الآخذة في التشكل آنذاك, فكان ظهور الجهاديين والجماعات الإسلامية,وانكفأت مصر فعلا علي نفسها إلي أن تم اغتيال السادات لينتهي حلمه علي يد الإسلاميين الجهاديين, وفي عصر حسني مبارك كانت مصر دولة مائعة لا هي قومية ولا هي إسلامية, دولة في حرب دائمة علي الإرهاب المتشح بوشاح الدين, دولة مرتمية في أحضان أمريكا كليا, وكانت هذه الدولة هي غاية المني لأمريكا فساندت مصر لبقاء حسني مبارك كل هذا العمر رئيسا, ولم لا, مادام الوضع يناسبها, لكن تنامي موجة العداء لأمريكا بعد11 سبتمبر2001, ثم الحروب المباشرة علي العراق وافغانستان, وتقسيم السودان كان هاجسا كبيرا لأمريكا, وكالعادة مارست أمريكا ذات السياسات التي تمارسها منذ عقود لمنع تنامي الهوية القومية بأي ثمن, ولما اشتدت الحركات الثورية في مصر منذ عام2005( وهو نفس العام بالمناسبة الذي خرجت فيه علينا كوندليزا رايس بمشروع الشرق الأوسط الكبير والفوضي الخلاقة التي تستهدف تقسيم المقسم وتجزيء المجزأ وتفتيت المفتت) عملت أمريكا من خلال محورين, الأول هو السيطرة علي تلك الحركات الثورية من خلال التنظيم والتمويل, والثاني هو مساندة والدفع بالفصائل الدينية لكي تمثل الهوية الإسلامية شوكة في جنب الليبراليين والقوميين معا, ولأن أمريكا لا تترك شيئا للصدفة فقد تحسبت لانتصار أحد التيارين سواء الثوري أو الإسلامي علي دولة مبارك, وكانت عليها أن تضمن ولاءهما, فكانت الفكرة هي الدفع بمجموعة من الليبراليين وأحيانا العلمانيين ليقودوا التيار الثوري, وكانت الفكرة أيضا هي دعم الإخوان المسلمين كأكبر فصيل إسلامي منظم والدفع بهم إلي صدارة المشهد, ومع تدمير جيوش العراق وسوريا وحزب الله وانفصال السودان لم يعد في المنطقة سوي جيش واحد قوي هو الجيش المصري, الذي لايمكن أن يعمل سوي للهوية القومية التي لا يمكن أن تترك للضياع في مقابلة الهوية الإسلامية, التي يجب ألا تكون أداة في صراع سياسي ابدا لأن الإسلام ليس انتماء سياسيا, وإنما هو انتماء فطري لكل مسلم, وهو لا يتعارض أبدا مع الهوية القومية, كما يعتقد الإسلاميون, كما أن الهوية القومية لا يمكن أن تترك للضياع في مقابلة الهوية الليبرالية أو العلمانية المائعة التي لا تحفظ لهذا البلد تاريخا أو ثقافة أو سمات ميزته طوال تاريخه. الهوية القومية اذن هي ما يجب أن يعض عليه المصريون بالنواجز, ولا يتعارض ذلك أبدا مع الولوج إلي عصر الديمقراطية الحقيقي, هوية تحسم الصراع الذي تغذيه أمريكا كما فعلت دائما, وهو صراع غير ضروري علي الاطلاق بين هوية قومية مصرية عربية أفريقية وبين هوية إسلامية لا تحتاج ولا نحتاج أبدا لتسييسها لأنها عقيدة وهوية فطرية والتسييس يضرها أكثر كثيرا مما ينفعها. د. أحمد الجيوشي عميد كلية التعليم الصناعي جامعة حلوان