نقل السلطة إلي حكم مدني منتخب في أسرع وقت هو المخرج من الأزمة التي استحكمت حلقاتها خلال الأسابيع الأخيرة, وخلقت أجواء ثقيلة كادت تغطي علي الإنجاز الكبير المتعلق بإجراء الانتخابات البرلمانية. وإذا كانت هذه الانتخابات خطوة أساسية في اتجاه نقل السلطة بالفعل, يظل إنهاء المرحلة الانتقالية رهنا بانتخاب رئيس للجمهورية. ولذلك أصبح التعجيل بهذا الانتخاب ضروريا, وصار الموعد الذي سبق تحديده لإتمام عملية انتخاب الرئيس وتوليه منصبه (30 يونيو القادم) بعيدا في رأي من يعتقدون أن الوضع في البلاد لا يتحمل الانتظار نحو ستة أشهر أخري. ولهذا الرأي, وما يقترن به من طلب فتح باب الترشيح للانتخابات الرئاسية في وقت أقرب, وجاهته في ضوء الأزمة التي تراكمت نتيجة اختلالات شابت إدارة المرحلة الانتقالية منذ بدايتها. غير أنه لكي يكون انتخاب رئيس الجمهورية حلا للأزمة, لابد قبل كل شئ من احترام إرادة الشعب التي تجلت في الإعلان الدستوري والخطوات التي حددها لنقل السلطة, كما ينبغي أن نعمل في الوقت نفسه لتوفير المقومات اللازمة لانتخاب الرئيس وفي مقدمتها الإسراع بوضع الدستور الجديد الذي يحدد صلاحيات هذا الرئيس, ويوضح نظام الحكم الذي سيعمل في ظله, فليس معقولا أن يتم انتخاب رئيس الجمهورية قبل التوافق علي نظام الحكم وحدود صلاحيات هذا الرئيس لسببين أساسيين: أولهما أن المرشحين الذين سيتقدمون لنيل ثقة الناخبين لابد أن تكون لهم برامج يطرحونها, ولكي يتمكنوا من ذلك, ينبغي أن يكون واضحا لكل منهم موقعه في نظام الحكم, لأن هذا الموقع يختلف في نظام رئاسي عنه في آخر برلماني, أو في ثالث مختلط. ولكن السبب الأكثر أهمية هو أن انتخاب رئيس الجمهورية قبل إصدار الدستور الجديد الذي يحدد صلاحياته ينطوي علي مغامرة خطيرة, فالرئيس الجديد سيتولي منصبه, في هذه الحالة, في ظل معطيات تمنحه صلاحيات مطلقة بلا حدود. ولأننا لا نستطيع معرفة من سيكون الرئيس الذي سينتخبه الشعب, فليس في امكاننا أن نتوقع ما الذي يمكن أن يفعله بهذه الصلاحيات, خصوصا في ظل استحالة التنبؤ بالوقت الذي سيستغرقه إعداد مشروع الدستور الجديد, وإصداره بعد طرحه للاستفتاء العام. ويعني ذلك أننا نغامر بتسليم البلاد إلي رئيس لديه صلاحيات مطلقة لفترة قد تطول إذا حدثت خلافات واسعة علي كيفية تشكيل الجمعية التأسيسية التي ستضع مشروع الدستور, ثم علي بعض المبادئ الأساسية لهذا الدستور, وهذا سيناريو لا يمكن استبعاده بأي حال في ظل الاستقطاب الذي يسود الحياة السياسية, وما قد يؤدي إليه من انقسام بشأن الدستور الجديد. ولا توجد ضمانات, في هذه الحال, لعدم استسلام الرئيس المنتخب لإغراءات السلطة... وما أدراك ما هذه الإغراءات في بلد يحفل تراثه السياسي بالكثير مما يحتاج إلي قدرة هائلة علي مقاومتها, فإذا لم يكن هذا الرئيس الذي لا نعرفه بعد شديد الإيمان بالديمقراطية, وقويا شامخا بحيث لا يسهل سقوطه في هوة إغراءات السلطة, سنكون كمن يستجير من الرمضاء بالنار, فليس هناك ما يضمن أن يستغل هذا الرئيس انشغال البرلمان بالصراعات التي قد تحدث وتعطل إصدار دستور جديد لينفرد بالسلطة, أو أن يستثمر حاجة قطاع واسع من المصريين إلي وضع حد للانفلات الأمني, وبعض أشكال الفوضي التي تثير القلق, لكي يستأثر بالسلطة بدعوي إنقاذ البلاد, وإعادة الانضباط المفقود. ولا يكفي وجود برلمان منتخب لضمان عدم حدوث مثل هذا السيناريو, أو تجنب ما يشبهه, لأن الرئيس قد يستطيع الالتفاف علي هذا البرلمان إذا اصطدم به مستغلا حاجة معظم المصريين إلي منقذ. وقد يقول قائل, هنا, إن هذا السيناريو يمكن أن يكون واردا في حال حدوث خلاف كبير بين البرلمان والمجلس الأعلي للقوات المسلحة, حتي إذا لم ينتخب الرئيس الجديد قبل إصدار الدستور, وهذا صحيح نظريا, ولكن احتماله ضعيف واقعيا, لأن الرئيس الذي سينتخب من الشعب بشكل مباشر سيكون في وضع أقوي بكثير من هذا المجلس سواء داخليا, أو أمام المجتمع الدولي. ولكن الأهم من ذلك هو أنه لا يصح أن نحصر مصيرنا في خيارين أحلاهما مر, وهما انتخاب رئيس بدون تحديد لصلاحياته, وتسليمه البلاد ليفعل فيها ما يشاء, أو استمرار المرحلة الانتقالية لفترة طويلة. فالخيار الذي يمكن أن يحدث توافق عليه هو أن ترتفع الأحزاب والقوي السياسية إلي مستوي المسئولية, وأن تسمو فوق الصراعات الأيديولوجية والعقائدية, وأن تتعاون بإخلاص للتعجيل بإصدار الدستور الجديد, وبالتالي انتخاب رئيس محدددة صلاحياته بدون تعريض البلاد لخطر استئثاره بالسلطة, ولما كانت مقومات الدولة هي أكثر ما يثير الجدل, ويخلق وضعا استقطابيا يعطل عملية إصدار الدستور الجديد إذا أعيدت كتابته من الألف إلي الياء, يمكن اختصار هذه العملية عبر إقرار القسم الأول في دستور 1971, والذي يشمل أبوابه الأربعة الأولي المتعلقة بمقومات الدولة والمجتمع والحريات والحقوق الواجبات العامة. وعندئذ يمكن تجنب صراعات يثيرها الجدل حول هذه القضايا التي لا يوجد خلاف أساسي علي ما يتضمنه دستور 1971 بشأنها, والتوجه مباشرة إلي مصدر البلاء الرئيسي في هذا الدستور وهو الباب الخامس الخاص بنظام الحكم, فهذا الباب هو الذي ينبغي أن تعاد كتابته بشكل كامل, لأنه يجعل نظام الحكم مرتبطا بفرد ومعتمدا عليه ودائرا في فلكه. وعندئذ يسهل التوافق علي شكل من أشكال نظام الحكم المختلط (الرئاسي البرلماني), لأنه يتعلق بترتيبات إجرائية وليس بخلفيات عقائدية وأيديولوجية, الأمر الذي ييسر الانتهاء منه في أسابيع قليلة يدعي بعدها مباشرة إلي انتخاب الرئيس. المزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد