الحوار الثقافي الذي ندعو إليه جميع الفصائل السياسية في مصر وكل التيارات الثقافية المتنوعة والتي تستند إلي مرجعيات فكرية متعددة, لابد له ذ إن أردنا حلا شاملا للأزمة السياسية في مصر- أن يركز بعمق علي معالجة إشكالية الخلط المعيب بين الدين والسياسة. ولابد أن نتفق منذ البداية علي أن مشروع الحداثة الغربي والذي كان هو أساس التقدم في النظم الديموقراطية كان يقوم علي عدة أسس, أهمها علي الإطلاق الفردية والعقلانية والاعتماد علي العلم والتكنولوجيا. وكل أساس من هذه الأسس كانت له آثار سياسية بالغة العمق في مجال ترسيخ قواعد الديموقراطية الأصيلة. فالفردية كانت تعني تاريخيا في البنية الأوروبية استخلاص الفرد من حالة الشيوع الجماعية في المجتمع الإقطاعي, حيث كانت تذوب ذاتية الفرد في الجموع الخاضعة خضوعا مطلقا لسلطة أمراء الإقطاع, الذين حكموها في بعض الفترات التاريخية بمنطق سلطة الحكم الإلهي. واستخلاص فردية الفرد معناه تحويله إلي مواطن له حقوق وعليه واجبات, في إطار دولة يحكمها مبدأ سيادة القانون. وتتمثل حقوق المواطن أساسا في تمتعه بالحرية السياسية, وحقه بل وواجبه في الإسهام- عن طريق الانتخابات- في اختيار من يحكموه, وفقا للبرامج السياسية التي يعلنونها مقدما. أما حقوقه الاقتصادية فتتمثل في الحق في التعليم والسكن والصحة, وأهم من ذلك كله في العمل الذي تكفله الدولة للمواطنين, أيا كان النظام الاقتصادي السائد. وللمواطن أيضا حقوق ثقافية ثابتة, وأهمها حرية الاعتقاد, وتمتعه بكل حقوق المواطنة بدون أدني تمييز نتيجة اللون أو الأصل العرقي أو دينه. ويمكن القول بكل يقين ان جوهر الحداثة الفكرية الغربية التي أدت إلي تقدم المجتمعات مبدأ أساسي هو أن العقل وليس النص الديني هو محك الحكم علي الأشياء. بعبارة أخري أن العقل أساس اتخاذ القرارات السياسية وصياغة الاستراتيجيات المناسبة للتطور, والعقلانية الاقتصادية في تنظيم الموارد وتحديد سبل الاستثمار. وعلي ذلك لا يجوز في الممارسة السياسية الرشيدة الخلط المعيب بين الدين والسياسة بعبارة أخري لا يجوز في المجال السياسي الإدعاء أن الحاكم ملكا أو رئيس جمهورية هو ظل الله علي الأرض, أو أن له مكانة مقدسة تجعل ذاته لا تمس اعتمادا علي مرجعية دينية أيا كانت. كما أنه في مجال الاقتصاد لا يجوز في مجال اتخاذ القرارات- كما حدث في حكم الإخوان- الاستناد إلي مرجعيات دينية لاتخاذ القرارات الاقتصادية, كما حدث في حالة قرض البنك الدولي الذي رفضته جماعة الإخوان في ظل وزارة الدكتور الجنزوري, بزعم أن فوائده ربا محرم, ثم قبلته بلا تحفظ في ظل وزارة هشام قنديل, بناء علي فتوي لأحد فقهاء جماعة الإخوان المسلمين حين قال ان الضرورات تبيح المحظورات وعلي ذلك لا بأس لقبول الفوائد مع أنها ربا! وحتي لا يكون حديثنا علي سبيل التجريد أسوق- للتدليل علي خطورة خلط الدين بالسياسة- التصريح الذي أدلي به أخيرا الشيخ راشد الغنوشي رئيس حزب النهضة الإسلامي في الجموع الحاشدة التي اجتمعت لتأييده في الصراع السياسي مع المعارضة التونسية التي تريد حل المجلس التأسيسي وتغيير الحكومة ان هذه الحشود تذكرني بفتح مكة. وهكذا- ربما بغير أن يقصد- شبه نفسه بالرسول- عليه السلام- وشبه أعضاء حزب النهضة وكأنهم هم فقط المسلمون في مواجهة أعضاء أحزاب المعارضة- الذين وفقا لخطابه- هم الكفار! بعبارة أخري الأحزاب السياسية ذات المرجعيات الإسلامية تبدو خطورته- بالإضافة إلي الخلط المعيب بين الدين والسياسة- في أنها تعمد إلي تكفير خصومها السياسيين, والادعاء الكاذب إلي أن أعضاءها هم وحدهم المسلمون, وهم وحدهم الذين يمثلون صحيح الدين. وينطبق ذلك في عرفهم علي التيارات السلفية ذاتها التي شكلت هي أيضا أحزابا سياسية دينية تنطلق من تهويمات غيبية ليس لها وجود ملموس في الواقع الاجتماعي. ولنحاول أن نحلل خطابات قادة جماعة الإخوان المسلمين التي انطلقت من علي منصة رابعة العدوية. قال قيادي إخواني معروف مخاطبا الجماهير المغيبة التي تهتف بلا فهم إسلامية إسلامية ضد العلمانية انه تأخرت نصرة الله لنا لأنه أراد أن يمتحن عزيمتنا علي الصمود. ما هذا الفكر الخرافي البدائي؟ الرجل يتحدث في سياق صراع سياسي بين جموع الشعب المصري وجماعة الإخوان المسلمين المستبدة علي أن الله سبحانه وتعالي معهم وأنه آخر النصر لأنه ذ وكأنه سبحانه- لا يعرف وهو يريد أن يمتحنهم! إن الخطورة البالغة في خلط الدين بالسياسة تبدو في تصوير الصراع السياسي بأنه صراع ديني بين مسلمين وكفار, وادعاء أن حزبا سياسيا دينيا كحزب الحرية والعدالة الإخواني يمتلك الحقيقة المطلقة! غير أنه تبدو خطورة الخلط بين الدين والسياسة من تأثيراته الخطيرة علي كيان الدول وتماسك المجتمعات. وليس أدل علي ذلك من المشروع المعلن لجماعة الإخوان المسلمين وهدفه الاستراتيجي محو كيانات الدول الوطنية, وعدم الاعتداد بحدودها المقدسة, وإذابتها قسرا في سياق نظام للخلافة الإسلامية يحول بلدا مثل مصر بتاريخها العريق وتراثها البالغ الثراء إلي مجرد ولاية من ولايات الخلافة, وعدم الاعتداد بالقاهرة كعاصمة للدولة, وإنما اختيار القدس- كما صرح الداعية الإخواني صفوت حجازي- لتكون عاصمة الخلافة! ومعني ذلك بكل بساطة تفكيك الدولة المصرية لحساب أممية إسلامية, وهمية لا تستند إلي أي فهم عميق لحقائق النظام العالمي الراهن, الذي يتشكل من دول ذات سيادة وليس من ولايات تنتمي إلي خلافة دينية مضي زمانها منذ عشرات السنين, بعد أن سقطت الخلافة العثمانية إلي غير رجعة! وتبدو خطورة الخلط بين الدين والسياسة في أنه يغري الأحزاب السياسية الدينية بإتباع سياسات غير رشيدة لا تستند إلي أي منهجيات علمية, بدعوي أن سبحانه وتعالي كفيل بإنجاحها لأنهم هم بمفردهم المعبرون عن مشيئته. وقد رأينا- من واقع الممارسة الفعلية- أن مشروع النهضة الذي روجت له جماعة الإخوان المسلمين كان مجرد خدعة جماهيرية لكسب أصوات الناخبين, لأنه تبين من واقع تصريحات قادة الجماعة أنفسهم أنه لا وجود له! وحتي لو وجد فهو لن يزيد إطلاقا عن مجموعة من التهويمات التي تفتقر إلي أسس التخطيط العلمي المعترف بها. طرح إشكالية الدين والسياسة في الحوار الثقافي المقترح مطلوب لأنه من الضروري لأي تقدم ديموقراطي في البلاد منع تشكيل الأحزاب السياسية الدينية, وتجريم استخدام الشعارات الدينية في الانتخابات السياسية, وأهم من ذلك كله الاتفاق علي سياسات ثقافية جديدة تقوم علي أساس تكوين العقل النقدي الذي لا ينساق بسهولة وراء الشعارات الغوغائية, ويقيم عملية التفكير في شئون المجتمع والسياسة والاقتصاد علي العقل بمفرده, وضعا في الاعتبار التجارب الناجحة للمجتمعات التي قطعت أشواطا بعيدة في التقدم الإنساني. لمزيد من مقالات السيد يسين