السؤال الرئيسي الذي ينبغي أن نطرحه هو هل يواجه المجتمع المصري الآن أزمة تحتاج إلي حلول إبداعية رشيدة؟ الإجابة هي نعم علي سبيل القطع. ولكن قبل أي حديث عن مبادرات تطرحها مجموعات من أنصار جماعة الإخوان المسلمين وتقوم علي أساس فرض مستحيل التطبيق وهو عودة الرئيس المعزول د. محمد مرسي لتسلم مهام منصبه وتفويض سلطاته لرئيس وزراء متفق عليه, علينا أن نشخص أسباب الأزمة تشخيصا يحيط بأسبابها العميقة ولا يقف عند أسبابها الظاهرة. ولكنني قبل أن أشرع في هذا التشخيص لا أستطيع أن أخفي دهشتي الشديدة من المبادرة التي طرحها عدد من المثقفين والناشطين السياسيين وكلهم بلا استثناء شخصيات مرموقة ومحترمة, والتي تريد بكل خفة وبساطة- إعادة عقارب الساعة إلي الوراء, وتلغي الدلالات الكبري لموجتين ثوريتين لا سابقة لهما في التاريخ المصري الحديث وربما في التاريخ العالمي. الموجة الثورية في30 يونيو والتي كانت استجابة شعبية فاقت كل التصورات لحملة تمرد التي وقع علي استماراتها ملايين المصريين, وضمت كل الأطياف السياسية والطبقات الاجتماعية للشعب المصري لإسقاط حكم جماعة الإخوان المسلمين, والموجة الثورية الثانية في26 يوليو2013 استجابة لنداء الفريق أول السيسي لإعطائه تفويضا للقضاء علي العنف والإرهاب. والواقع أن حكم الإخوان المسلمين تحول في فترة قصيرة من حكم ديموقراطي أقام شرعيته علي أساس نتائج صندوق الانتخابات البرلمانية والرئاسية إلي حكم استبدادي صريح. فقد تتالت القرارات الجمهورية المعيبة التي نقضتها في غالبيتها العظمي المحكمة الدستورية العليا ومحاكم القضاء الإداري, وكانت قمتها بلا شك الإعلان الدستوري الذي أعلنه الدكتور مرسي وأعطي لنفسه فيه سلطات مطلقة. لن نتحدث عن محاولات أخونة الدولة وأسلمة المجتمع, لأنها تحتاج إلي توثيق دقيق لمحاولات الجماعة الزج بكوادرها في كل مفاصل الدولة العميقة, ليس علي أساس الكفاءة ولكن علي أساس الولاء. ولم يكتف حكم الإخوان بالإستحواذ الكامل علي السلطة, والإقصاء الشامل لكل الأحزاب السياسية المعارضة عن دائرة صنع القرار, ولكن رئيس الجمهورية المعزول دخل في صراعات عنيفة مع مؤسسات الدولة الرئيسية. دخل في خلاف جوهري مع القوات المسلحة حول اعتبارات الأمن القومي, ودخل في صراع عقيم مع المؤسسة القضائية بالعزل غير الشرعي للنائب العام والتعيين الباطل لنائب عام جديد يأخذ تعليماته علي غير ما ينص القانون- من رئيس الجمهورية مباشرة, وهو التعيين الذي أبطلته محكمة النقض لمخالفته لقانون السلطة القضائية. ودخل الحكم الإخواني في معركة عنيفة ضد الإعلام, سواء بمحاصرة الحشود السلفية الحازمية لمدينة الإنتاج الإعلامي لترويع الإعلاميين وإرهابهم, أو في التهديد بغلق قنوات تليفزيونية تنتقد نظام الحكم الإخواني بعنف ولكن عن حق. وكانت المعركة الخاسرة الأخيرة- قبل السقوط النهائي- مع المثقفين والفنانين بتعيين وزير إخواني من خارج دائرة القادة الثقافيين المعترف بهم, والذي بدأ عصره التخريبي غير الميمون بإقالة كل قيادات وزارة الثقافة تمهيدا لأخونة الوزارة. ومن هنا لا أدري كيف تجاهل أصحاب المبادرة أن الانتفاضة الثورية في30 يونيو كانت في حقيقتها حكما شعبيا لا راد له يقضي بإسقاط حكم الإخوان, وإعلانا جهيرا بالفشل السياسي لهذا الحكم الذي خلط خلطا معيبا بين الدين والسياسة, وعجز قادته عن إدارة الدولة لأنها كانت أكبر بكثير من قدراتهم المتواضعة, وفشلت وزاراته في مواجهة المشكلات الجماهيرية. كيف بعد ذلك يدعو أصحاب المبادرة لعودة الدكتور محمد مرسي مرة أخري إلي منصبه كرئيس للجمهورية وإن كان منزوع الصلاحيات؟ وكيف يظنون أن المسألة بكل بساطة تتمثل في إجراء الانتخابات البرلمانية والتبكير بانتخابات رئاسية؟ ألا يعد هذا التوجه استهانة كاملة بالإرادة الشعبية التي أعلنت رفضها لجماعة الإخوان المسلمين, سواء في سياساتها أو في عقيدتها المتطرفة التي سعت من خلالها إيهام المواطنين أنها وحدها تمثل الإسلام؟ وألا تعد هذه المبادرة إهدارا للدعم الوطني الذي قدمته القوات المسلحة للشعب حين تبنت مطالبه وقامت بعزل رئيس الجمهورية المستبد الذي وجهت له قبل ذلك انذارات متعددة بضرورة أن يقوم بلم الشمل السياسي, ووضع خارطة طريق واضحة تمام الوضوح وقصيرة زمنيا, لوضع دستور وإجراء انتخابات رئاسية؟ لم يشأ أصحاب المبادرة وكلهم مثقفون مرموقون محسوبون علي تيار الإسلام السياسي أن يعترفوا صراحة بالسقوط التاريخي لدعاة المشروع الإسلامي الغامض الملامح, والذي يستند إلي مجموعة من الأوهام. وليس أدل علي ذلك من أن ملامحه البارزة كما صرح بذلك الدكتور بديع المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين بعد حصول حزب الحرية والعدالة علي الأكثرية في انتخابات مجلسي الشعب والشوري- أنه يبدو أن حلم الشيخ حسن البنا في إقامة الخلافة الإسلامية قارب علي التحقق! أي خلافة إسلامية؟ وكيف يمكن إقامتها في ظل الظروف الدولية والإقليمية والمحلية السائدة؟ وكيف تقبل جماعة الإخوان المسلمين ببساطة تحول مصر إلي مجرد ولاية من ولايات الخلافة, والتي لن تكون القاهرة عاصمتها ولكن القدس؟ وكيف يفكر قادة الجماعة حين يصرحون بأن خطتهم هي الوصول في النهاية إلي أستاذية العالم! ما هذا الإدعاء الفارغ من قبل جماعة دينية مفلسة فكريا, لا تمتلك أي مشروع متكامل كما ظهر من تخبطها الشديد حين هيمنت علي الحكم في مصر؟ ومن هنا لابد لنا لو أردنا حل الأزمة- من تشخيصها تشخيصا دقيقا. وبداية يمكن القول إن الخلط المعيب بين الدين والسياسة كان هو مصدر الخلل الجسيم في البنية الفكرية لجماعة الإخوان المسلمين. ونستطيع بناء علي نظرة مقارنة- التأكيد أن الدول الأوروبية المعاصرة لم تتقدم إلا بعد أن فصلت فصلا قاطعا بين الدين والسياسة. وهذا الفصل لا يعني علي وجه الإطلاق الفصل بين الدين والمجتمع, لأنه بإجماع العلماء الاجتماعيين من بين الأنساق القيمية الأساسية في كل المجتمعات, سواء منها التي تنطوي تحت لواء اليهودية أو المسيحية أو الإسلام. والدليل علي ارتباط التقدم بهذا الفصل الضروري من الدين الذي له وسائله الخاصة, والسياسة لها آلياتها المتميزة أن كل المحاولات المعاصرة لإقامة دول دينية علي أساس تطبيق ما يطلقون عليه الإسلام- حسب تأويلاتهم- فشلت فشلا ذريعا. وهكذا يمكن القول إنه إن لم نتخذ من الإجراءات السياسية والدستورية القانونية ما يلزم للفصل بين الدين والسياسة لن يتاح لبلادنا أن تتقدم. غير أن هناك مشكلة أخري لا تقل جسامة وهي أن سوءات الديمقراطية النيابية التقليدية ظهرت في التطبيق وخصوصا في تشبث جماعة الإخوان المسلمين بالصندوق فقط دون قيم الديمقراطية الأساسية, مع أن الصندوق مجرد آلية لا يمكن بالاستناد إليها فقط ممارسة الاستبداد السياسي استنادا إلي أكثرية مزعومة أو أغلبية افتراضية. ومن هنا يمكن القول إننا نحتاج إلي إبداع سياسي لكي نرتاد بخيال خلاق عالم ديمقراطية المشاركة الكفيلة بتصحيح العيوب الأساسية في بنية الديمقراطية النيابية التقليدية! نقلا عن صحيفة الاهرام