ظل المجال الثقافي السياسي في المنطقة العربية بوجه عام, وعلي مدي عقود, ومنذ سقوط الخلافة العثمانية بالأكثر وتحديدا, يسيطر عليه الصراع الجدلي الذي تميز بالمراوغة والكذب وضحالة الفكر وضعف الحجة, إذ دأب التيار الرجعي فيه, من خلال منابر عدة رسمية وغير رسمية, يكيل علي العالم من حولنا كل النقائص ويزيد في تمجيد الماضي والإصرار علي استعادة كل التراث دون تمحيصه وتجديده. الأمر الذي زاد من الانقسامات المجتمعية وأشاع البلبلة, فعرقل التقدم والتوصل إلي توافق سياسي موضوعي تحتاجه بلاد هذه المنطقة لكي ما تستطيع العبور إلي الطريق نحو الاستقرار والتنمية في ظل الدولة الديمقراطية الحديثة في عالم اليوم. وهذا ما شهدته مصر أيضا, إذ دار سجال عقيم حول العديد من الثنائيات: نحن والغرب, والاصالة والمعاصرة, والحكم الإسلامي والحكم غير الإسلامي, والعروبة والوطنية المصرية, ثم الدولة الإسلامية في مواجهة الدولة الديمقراطية الحديثة المرتبطة بالعلمانية, حسبما يدعون جدلا, والشريعة والقانون الوضعي, وغير ذلك من ثنائيات فرعية, أكثرها مصطنع, بل ووهمي, إذ إن ثقافات الشعوب, خاصة العريق منها, بمكوناتها عبر الزمن هي مزيج من ثقافات امتزجت عبر آلاف السنين, وفي المحيط الجغرافي للوطن, لتكون فسيفساء متناغمة يصعب تفكيكها, وإلا تفككت المجتمعات والدول. لقد صدعونا, بل ويحاولون إرهابنا, بالحديث عن هوية, وكأن لاهوية لنا. فجذورهويتنا تضرب في أعماق التاريخ منذ أن سكن وعمر الأجداد وادي نيلنا, وأقاموا علي هذه الأرض إحدي أعظم الحضارات الإنسانية التي إستوعبت وهضمت كل أجنبي. وإن كانت اللغة والدين قد تغيرا عبر العصور, إلا ان التنوع الديني والمذهبي والعرقي لايزال قائما. لقد تعرضت مصربعدثورة25 يناير2011, ولأول مرة في تاريخها, لما يشبه الحرب الثقافية الأهلية بين التيار السياسي المتأسلم بادعاء الحفاظ علي الهوية الإسلامية لمصر وبقية الشعب المصري من المسلمين وشركائهم في الوطن من المصريين المسيحيين الذين عاشوا معا ما يقرب من أربعة عشر قرنا, ولم يثار بينهم مثل هذا الجدل الحادث الآن! ما معني ذلك, وما الهدف من ورائه. وهل يفهم أصحاب هذه الحملة المسعورة تبعاتها؟. هويتنا التي تشكلت عبر أكثر من سبعة آلاف عام. لا يمكن اختزالها في حقبة زمنية أو في أحد مكوناتها. هذا أمر في غاية الخطورة, إذ يهدد الوطن بالتفتت. كما أنه يقوض أسس الدولة الديمقراطية الحديثة, التي تقوم علي التعددية بكل تجلياتها الثقافية والسياسية في إطار الوحدة والتعايش الذي لا يمكن أن تبني بغيره الحضارات. وهذا هو الدرس التاريخي الذي تعلمناه ممن شادوا حضارتنا المصرية. هوية مصر الوطن هي هوية كل المصريين, لا يمكن تفكيكها, أو مجرد العبث بها, وهوية مصر المعاصرة ينبغي ان تكون انعكاسا ودليلا علي قدرتنا علي الإبداع والتقدم وليس العودة إلي الوراء. والملاحظ أن إثارة مسألة الهوية, بهذا الشكل الغريب والمرفوض, قد ارتبطت بوضوح بالعمل الدؤوب علي المستويين السياسي والدستوري في ذات الوقت, إذ وردت, كما شاهدنا جميعا, في دستور2012 المعيب, العديد من النصوص التي تقيد وتقوض العديد من الحقوق والحريات التي لا يمكن أن يقوم بدونها أي نظام ديمقراطي حقيقي. فليس هناك في هذا الدستور الأزمة, علي سبيل المثال, نصوص تحقق مساواة المرأة بالرجل في جميع المجالات, وخصوصا السياسية منها. وليس هناك أيضا نصوص تمنع التمييز بكل أشكاله وتجرمه, من جانب, ونصوص أخري تشجع وتحمي حقوق الأقليات بشكل يعكس المواثيق الدولية المعاصرة. إن من أهم أسس الديمقراطية, ومن خصائص الدولة الحديثة: تمتع جميع المواطنين بحقوقهم علي قدم المساواة في ظل دولة القانون وفي إطار التعددية السياسية, والانفتاح علي العالم وثقافاته وعلومه. وفي نهاية الأمر, يجب أن يعي الجميع أن مصر لا تعيش خارج العالم ولا العصر, كما أنها لا يمكن أن ترتد إلي الوراء علي الإطلاق, فحياتها وحياة المصريين في المستقبل الأفضل. لمزيد من مقالات نبيل عبد الملك