يشبه التضليل الإعلامي للشعوب ما قام به البريطانيون في ربيع عام 1944 من حملة تضليل إعلامي، دفعت هتلر والمحيطين به من أصحاب القرار إلى اعتقاد أن "الإنزال البحري" للحلفاء سيتم في منطقة غير "النورماندي".. تلك العملية التي غيّرت مجرى الحرب العالمية الثانية كلها. أما أبرز نماذج التضليل الإعلامي بمنطقتنا فتمثل في مقولة كاذبة نشرتها وسائل الإعلام العالمية على نطاق واسع في أوائل تسعينيات القرن الماضي، مفادها أن العراق تحت قيادة صدام حسين يمتلك سلاحًا نوويًا يهدد به العالم، مما مهّد لحملة عسكرية واسعة النطاق، احتلت العراق، وقوضت بُنيان نظامه. وعلى صعيد مصر، صحيح أنّ وسائل الإعلام لا تتحمل المسؤولية المباشرة عن الهزائم العسكرية، والنكبات السياسية، والتخلف الحضاري، الذي أصاب بلادنا عقودًا، إلا أنها أسهمت بنصيب وافر في عمليات تضليل واسعة النطاق، وتلميمع وتعتيم، وحذف وتضخيم، وتلاعب بالحقائق، وتغييب للمعلومات..إلخ، مما يضع على كاهلها قدرًا لا يُستهان به من تلك المسؤولية. تعريفه وطريقته يعرف الباحث ذياب الطائي التضليل الإعلامي، في كتابه "التضليل الإعلامي من صناعة الخبر إلى صناعة السينما"، بثلاث نقاط هي: عدم تقديم المعلومات إلى المتلقي كما هي، وإجراء تعديلات في النص أو في الصورة بشكل مدروس ومنهجي، مما يؤدي إلى تغيير في المفاهيم، بهدف صنع واقع جديد لا علاقة له بالواقع المتحقق، لأجل خدمة مصالح أو أغراض خاصة. ويرى الباحث الفرنسي فرانسوا جيريه - في كتابه :"قاموس التضليل الإعلامي"- أن عملية التضليل الإعلامي تتم دائمًا بصورة واعية، من أجل صوغ رأي عام مؤيد لأولئك الذين يصدر عنهم هذا التضليل، إذ يعتمد على مشروع منظّم يهدف إلى تشويش الأذهان، والتأثير على العقل، كما على العواطف، والمخيّلة. هذا التضليل ليس له سوى هدف واحد -كما يقول جيريه- هو إدخال الشكوك، وصنع الاضطراب، وهدم المعنويات، مضيفًا أنه يجب التمييز بين التضليل الإعلامي باعتباره "فن التستّر وراء قناع" وبين "الدعاية" التي تسعى إلى تأكيد وجهة نظر ما، ونشر مقولات، وأفكار إيديولوجية وعقائدية، مثلمل تفعل الأنظمة الشمولية، وتهدف إلى "خداع العدو"، ودفعه إلى إقامة حساباته على معطيات خاطئة (1). وبإلقاء نظرة إلى المنطقة العربية والإسلامية نجد أنها تتعرض لهجمة إعلامية غير مسبوقة، بات المهيمنون فيها على الإعلام يمارسون عملية "غسل دماغ" جماعية على مستوى شعوب بأكملها، في قضايا مصيرية لا يُستهان بها، برغم حاجتنا -أكثر من أي وقت مضى- إلى توظيف الإعلام للنهوض بالأمة، ومواجهة الأخطار الخارجية، ومجابهة المُعيقات الذاتية، والداخلية. وتستند صناعة التضليل الإعلامي إلى تقنيات في التأثير والإقناع لتوجيه المتلقي للإيمان بأفكار معينة تخدم "رعاة الضلال"..حتى إنك تجد أكثر من وسيلة إعلامية تقدم الأكذوبة نفسها، كأنهم تواصَوا بها، بينما ما يحدث أن أنهم تخرجوا في مدرسة واحدة، بمناهج واحدة، وتوجهات واحدة، ومدرسين لا يتغيرون..إنها مدرسة "التضليل الإعلامي"! وقد صدق الكاتب الأمريكي هربرت شيللر حين قال في كتابه "المتلاعبون بالعقول": "مَنْ يسيطر على وسائل الإعلام..يسيطر على العقول". [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد