للأديب العالمي أمين معلوف عضو الأكاديمية الفرنسية كتاب مهم بعنوان الهويات القاتلة يطرح سؤال لماذا تتقاتل الهويات بدلا من أن يثري بعضها البعض؟ ثمة سؤال مشابه في مصر اليوم حول هل نحن مقبلون علي حقبة الشرعيات القاتلة بدلا من الشرعيات المؤسسة لنظم حكم ديموقراطية حديثة؟ فالحاصل في مصر اليوم أن هناك شرعية متنازع عليها في الميادين والشوارع بين أمر واقع جديد يستند أصحابه الي مفهوم الشرعية الثورية انطلاقا من مظاهرات30 يونيو. وبين شرعية دستورية يري أصحابها أنها تنعقد لنظام حكم كان حتي لحظة سقوطه معبرا عن إرادة شعبية مستمدة من صناديق الاقتراع. تتفاعل هذه الأزمة فتعكس صراعا للإرادات السياسية علي الأرض من ناحية وصراعا دستوريا قانونيا حول مفهوم الشرعية ذاته من ناحية أخري. صراع الإرادات السياسية يدور بين إرادة الجماهير الغاضبة التي فاجأتنا جميعا في30 يونيو علي الأقل من حيث زخمها وأعدادها وما أفرزته من أمر واقع جديد بحكم انحياز الجيش لها وذلك في مواجهة إرادة جماهير أخري غاضبة تتمسك بدورها بالسلطة الشرعية التي سقطت بفعل نظرية الأمر الواقع. وسواء كنا نعارض أو نؤيد هذا الأمر الواقع فالحاصل انه أنشأ علي الأرض سلطة جديدة. نظرية الأمر الواقع تجافي أصل الحق ذاته لكن القانون يعترف بها أحيانا. هذا تفسير وليس تبريرا للحاصل في مصر الآن. ولان لكل صراع حركة تفاعله وإدارته فإنه لا مخرج ولا مهرب من سؤال كيفية معالجة تداعيات هذا الأمر الواقع الجديد؟ لاحت في الايام بل في الساعات الأخيرة رؤيتان. الرؤية الاولي في طور التبلور ومفادها إجراء استفتاء شعبي علي خارطة المستقبل فإذا قبلها الشعب مضت المرحلة الانتقالية في طريقها المرسوم. أما إن رفضها الشعب فهذا سيعني عودة نظام الحكم السابق. هذه رؤية تتفادي احتمالات الصراع الأهلي لكنها تحتاج لضمانات وتطمينات لسلطة الأمر الواقع الجديد. الرؤية الثانية هي الاحتكام الي الحشود في الشارع فيما يبدو استدعاء من التاريخ لممارسة الديموقراطية المباشرة. هذه رؤية قد تحسم مسألة الأغلبية لكنها تنطوي علي احتمالات انفلات حركة الحشود في الشارع ووقوع احداث عنف وسقوط ضحايا فيزداد الامر تعقيدا. لا تستبعد الرؤيتان السابقتان إمكان إطلاق عملية تفاوض تشمل العديد من الملفات مثل معالجة الملاحقات القانونية لأركان النظام السابق بما في ذلك مسألة احتجاز الرئيس السابق, ومدي السماح لحزب الحرية والعدالة بالعمل السياسي وخوض الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة والوضع القانوني لجماعة الإخوان المسلمين وغير ذلك من ملفات أخري من المرجح أنها ستفرض نفسها في إطار عملية التفاوض السياسي. والمؤكد ان الطرف الذي ستكون له الغلبة في حركة الشارع سيغير من موازين عملية التفاوض. المشكلة ان الاحتكام الي حركة الشارع قد لا يكون أمرا مأمون العواقب. صحيح أن ثورة يناير المجيدة لم يتوقف مخاضها بعد بل يمكن قبول فكرة أن انتفاضة أو غضبة30 يونيو تعتبر جزءا من هذا المخاض. لكن يجب ألا ننسي أن الكارهين للثورة والمتوجسين منها سواء في الداخل او الخارج ما زالوا أكثر عددا وعتادا ودهاء من المؤمنين بالثورة.. ولربما كان في المشهد الثوري الظاهر زوايا وخبايا لا تلتقطها العدسات! وبخلاف صراع الإرادات السياسية الذي تدور رحاه في مياين مصر وشوارعها هناك صراع قانوني فلسفي آخر حول مفهوم الشرعية. كان مفهوم شرعية السلطة في الفكر السياسي والقانوني التقليدي موزعا بين الشرعية الدستورية المستمدة من صناديق الاقتراع وبين الشرعية الثورية المستلهمة من حركة الغضب الشعبي الجارف والشامل وهي تطيح بالنظام السياسي القائم وتفرض بحكم الأمر الثوري الواقع نظاما سياسيا جديدا يعبر عن مطالبها. الآن يوشك المصريون علي تكريس مفاهيم جيدة للشرعية مثل شرعية الإنجاز السياسي وشرعية الرضاء الشعبي العام. وهي مفاهيم رفعها بعض الساسة والمثقفين في معرض تبرير مطالبهم للرئيس السابق بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة. مجرد طرح مثل هذه المفاهيم لا يعني انها أصبحت مفاهيم صحيحة ومقبولة في الفكر القانوني والسياسي في مسألة شرعية سلطة الحكم. سنحتاج لوقت طويل لاختبار مثل هذه المفاهيم سواء علي صعيد الممارسة أو الفكر. وربما نكتشف يوما ما أنها كانت أضغاث أحلام ثورية. هذا فضلا عن خطورتها. وجه الخطورة يعني أن أي جهة قادرة علي عملية حشد جماهيري كبير في الشارع سواء بالمال السياسي أو التعبئة الدينية يمكنها أن ترتد علي نتائج صناديق الاقتراع مستندة الي هذا المسمي بعدم توافر شرعية الرضاء الشعبي العام او لانعدام شرعية الإنجاز السياسي. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم