حين يعلن تليفزيون البي بي سي أن الحشد المصري في الميادين فاق كل ما سبقته من حشود علي مدي التاريخ البشري المقروء, هنا يمكن أن نتساءل عن قدرة هذا الشعب علي تصحيح مسار أي إتجاه سياسي يريد أن يفرض عليه قالبا ما ليتحرك في إطاره. ولأن اليوم الذي أضاءت فيه الحشود ميادين مصر كان الثلاثين من يونيو, كان من السهل علي الذاكرة أن تستعيد ما جري في مثل هذا النهار من عام1966 حين أنهي صلاح جاهين الأغنية التي كان ينتظرها عبدالحليم حافظ والملحن كمال الطويل كي يشدو بها في احتفالات عيد ميلاد ثورة يوليو. بعيون الخيال المتذكر أري رأي العين صلاح جاهين يخطو خارج مكتبه وهو يقرأ القصيدة بصوت عال صورة.. صورة.. كلنا كده عايزين صورة. وبعيون الواقع أري أمامي الحشود في الميادين ترفع الراية المصرية طالبة لها النصر علي أي خلاف, وأن تبدأ رحلة تنقية النفوس من بخار الغيظ المتجمع من طول صبر علي أن تستطيع قمة المعارضة والحكم معا قراءة حقيقة أحلام هذا الشعب, وأن تعيد الإستماع إلي ما تراكم عبر التاريخ من أحلام. هل كان صلاح جاهين قد قرأ بعيون خياله هذا الحلم المتجسد واقعا في حشود المصريين المطالبين بتصحيح مسار ثوراتهم القديمة والمعاصرة؟ ألم يكن هذا الفنان هو صاحب الرؤية الثاقبة التي كتبت الشارع لنا.. أحنا لوحدنا فور بدء الإنفتاح السداح مداح الذي قوض الحلم في أن تعود ثمار أي تنمية جادة لعموم المصريين لا لقلة منهم, وصاحب هذا الإنفتاح تبشيرا بتجميد الدين داخل جماعات تم تسليحها كي تتناحر مع أبناء جيلها لتفرض رؤية مختلفة لدين السماء السلمي السمح؟ وانتهت تلك الجماعات إلي اغتيال رجل كان شعاره العلم والإيمان هو الراحل محمد أنورالسادات بطل النصر الجليل. هل كان في مقدور أي أحد مهما علت قوته أن يرغم المصريين علي أن يتحولوا إلي صلصال يتم صبه في قوالب سابقة التجهيز؟ ألم يكن هؤلاء المصريون هم من ضربوا فتنة الإستعمار الإنجليزي حين شاء التفريق بين أبناء الوطن الواحد بدعوي إختلاف الدين, فخرج شعار الدين لله والوطن للجميع من ثوار1919 ؟. ألم تكن تلك الحشود التي إزدحمت بميادين مصر هي ابنة الحشود التي خرجت لتؤيد وتبارك تأميم قناة السويس عام1956, هي ابنة الحشود التي أحاطت بمدن القناة لتقاتل الإحتلال الإنجليزي لبور سعيد بعد العدوان الثلاثي؟ أليست تلك الحشود هي الخارجة من رحم مظاهرات رفض انفصال سوريا عن مصر عام1961; وهي أيضا ابنة الحشود التي قامت ببناء المصانع عبر الخريطة المصرية, واندفعت لبناء السد العالي والتي أرغمت جمال عبدالناصر علي البقاء في موقع قيادة الوطن بعد نكسة الخامس من يونيو1967 ووضعت بالحبر السري شروطها لهذا القائد بإنه من غير المسموح له أن يواصل الحكم بأهل الثقة لا أهل الكفاءة, وخرجت في مظاهرات مزلزلة ترفض المحاكمة الشكلية للمسئولين عن النكسة, وفي نفس الوقت قدمت الحشود مليون مقاتل متعلم ليكونوا جنود جيش إنتصار أكتوبر؟ أليست تلك الحشود هي ابنة لرفض رحلة التجريف والتوريث في يناير من عام2012 ؟ وحين خرجت الجموع لتصحيح مسار ثورة يناير كانت العيون مثقلة بدموع متجمدة حزنا علي الدم الشاب المراق سواء أكان دم الجنود الستة عشر الذين استشهدوا في العام الماضي أو كان دم الشباب أمثال محمد الجندي وكريستي والحسيني أبو ضيف, وعشرات غيرهم, سمعت صوت والدة أحدهم وهي تعلن مشاعرها بأن الشباب الشهداء يديرون ظهورهم لنا وهم في علياء السماوات لأننا لم نأت بحقوقهم في القصاص, وسمعت والدة شهيد آخر وهي تقول سأكون في مقدمة المظاهرات لأري ابني راضيا عني وسأشعر أني أحتضنه واشم رائحة أنفاسه حين أكون في مقدمة الصفوف أليست تلك الحشود هي التي آمنت بحرمة الدم المصري؟ ومن سقط شهيدا خلال مظاهرات الثلاثين من يونيو لابد وأن نعثر علي قاتله لنذيقه حقه في العقاب. ومازلت أري بعيون الصدق أن الحشد المصري غير المسبوق في التاريخ البشري, هذا الحشد لايقبل استئصال فريق من المصريين, لكنه يرفض الصلف والتعنت والعجز عن نقد الذات قبل نقد الغير. وكأن صلاح جاهين قد رأي الصورة علي مدد الشوف مدنة ومدنة دي لصلاتنا ودي لجهادنا, مدخنة قايده قلوب حسادنا, تحتها صلب كأنه عنادنا, وقدامه من أغلي ولادنا, عامل ومهندس عرقان, شبان والشبان في بلدنا, في الصورة في أهم مكان.. صور يا زمان! هاهو الزمان قد صور أضخم حشود بشرية علي مر التاريخ الإنساني, حشود شعب رفض ويرفض الصب قالب أيا كان هذا القالب. وأسألوا برستيد مؤلف كتاب فجر الضمير فهو من قال أول قانون مكتوب عن العدالة وضعته سيدة الحضارات الكونية, حضارة مصر التي جعلت من كلمة ماعت أي عدل, هي الكلمة الأولي التي يحلم بها البشر لمزيد من مقالات منير عامر