منذ بدأت خدمة التعليقات التي يكتبها القراء علي موقع الأهرام الإلكتروني حتي فرضوا حيرتهم علي الكاتب; فإذا كتب عن مصر فإن التعليق يكون دوما لماذا لا تنظر إلي ما يجري في الخارج لتعرف حجم ما يحدث في بلادنا; وإذا كتبت عن الخارج فإن السؤال يأتي حادا وناقدا بأن لبلاد العالم حالها أما حالنا فهو الأجدر بالاهتمام; وبين هذا وذاك فإن الكاتب عليه ألا يعقد مقارنة من أي نوع, لأن الظروف والأحوال مختلفة كما ونوعا, وهي نفس المقارنة المطلوب النظر فيها لكيلا نذكر خبرا واحدا حسنا يخص مصر. كل ذلك معلوم ومفهوم, وفي كل الأحوال فإن المكتوب هنا وفي أماكن أخري محدود بالمساحة من الناحية, والفهم بأصول المقارنات من ناحية أخري; ولكننا لن نستطيع فهم ما يجري لدينا, وما يحدث في العالم دون ضرب أمثلة وتتبع تجارب الآخرين. وهناك فارق دائما بين المشابهة والمقارنة; والأولي تعني التطابق, والثانية تعني نقاط التقارب والمقاربة والاختلاف إزاء نقطة بعينها ولكنها لاتعني بالضرورة أن الحالة والأمر واحد. وعندما كتبت عن المصير اليوناني فلم يكن هناك قصد أن حالة مصر مثل اليونان, وإنما كانت المقاربة إزاء موضوع واحد وهو المدي الذي ذهبت إليه مصر واليونان في تحقيق التوازن المالي من خلال الإنفاق والضرائب في الحالتين, وكان الرأي أن السياسة في اليونان أدت إلي اقتراح بيع أرضها وجزرها, بينما كانت السياسة الضريبية في مصر علي مرارتها مفيدة; ولابأس أحيانا في أن تكون هناك أخبار جيدة عن مصر فهي وطننا علي أي حال. وفي كل الأحوال, وكما قلنا من قبل, فإن القارئ مثل الزبون هو دائما علي حق في إبداء رأيه صراحة, ولكن كما يقال في الأفلام فإن أي مقاربة بين ما يحدث في مصر وبلاد أخري هي مشابهة أو محض صدفة غير مقصودة, وإنما تقال علي سبيل التوضيح والاستفادة. وما انطبق علي ما كتبناه من قبل عن فيتنام واليونان وسلوفانيا والتشيك, ينطبق اليوم علي اليابان التي زرتها خلال الأسبوع الماضي بدعوة كريمة من وزارة الخارجية اليابانية لكي أشارك في حلقة نقاشية عن الأحوال في الشرق الأوسط, وألقي محاضرة عن التطورات الجارية في مصر, مع إجراء عدد من المقابلات الأخري سوف تتم الإشارة لها في حينها في هذا المقال ومقالات أخري. والبداية هي أن هذه الزيارة لم تكن الأولي لليابان حيث دعتني وزارة الخارجية اليابانية من قبل عام1986 تقريبا للقيام بما قمت به هذه المرة; ولكن الفارق هو أن اليابان أيامها كانت علي قمة السمعة من حيث الأداء الاقتصادي والتكنولوجي. وأذكر أن السؤال الأساسي ساعتها كان كيف حدثت المعجزة اليابانية; وكيف أن هذه المعجزة قد أدت إلي تصور دور جديد لليابان في السياسة العالمية. وأيامها كان هناك كتاب شهير عن اليابان التي تستطيع أن تقول لا; بالطبع للولايات المتحدةالأمريكية, ومن فرط تداوله صار ممكنا الحديث عن عالم متعدد الأقطاب تكون فيه طوكيو عاصمة لقطب دولي مهم. وكان ذلك ممكنا لأن الاتحاد السوفيتي قد بدأ أول خطوات انهياره وتشققه مع تولي جورباتشوف للسلطة; أما الولاياتالمتحدة فقد كان اقتصادها لايزال يعاني تقلصات كثيرة تعود جذورها للسياسات الاقتصادية خلال السبعينيات. وببساطة كانت الصناعات والشركات اليابانية نجوما ساطعة في عالم الاقتصاد الدولي; وبدأ غزو السيارات اليابانية, والسلع الأخري, لدول العالم الغربي الصناعية, إشارة إلي عالم جديد يحل فيه الاقتصاد محل القوة العسكرية, وكان القصد أن تحل اليابان, والقوي الآسيوية الصاعدة محل الولاياتالمتحدة وحلفائها في أوروبا, حيث كانت الجماعة الأوروبية التي أصبحت بعد ذلك الاتحاد الأوروبي لا تعرف ماذا سوف تفعل علي وجه التحديد. بعد ذلك زرت اليابان عدة مرات امتدت خلال عقدين تقريبا, واحدة منها جرت بترتيب من الصديق السفير القدير نبيل فهمي بعد الحدث الإرهابي في الأقصر خلال شهر نوفمبر1997 وقتل فيه61 من السائحين كان منهم عشرون يابانيا, معظمهم ممن كانوا يقضون شهر العسل علي ضفاف نهر النيل. وبالطبع كان الحدث مفزعا حينما نشرت في الصحف اليابانية ووسائل الإعلام الأخري صور الزفاف لمجموعة من الشباب كانوا في أولي خطوات الحياة, ثم جاء مصرعهم علي يد مجموعة من المجرمين ترتدي رداء الإسلام. وكان القصد من الزيارة إلقاء محاضرة, مع مجموعة أخري من المقابلات السياسية والدبلوماسية لكي نشرح أن ما جري كان استثناء من المصريين, وخروجا علي الدين الحنيف. وما بين عامي1999 و2000 شاركت مع عشرين من الخبراء الدوليين فيما عرف بعد ذلك بمنتدي طوكيو لمنع انتشار الأسلحة النووية, كانت المهمة هي وضع تقرير تتبناه الحكومة اليابانية أمام الأممالمتحدة لمواجهة انتشار هذه الأسلحة والتي كانت قد أصبحت قصة دولية عظمي بعد أن قامت الهند وباكستان بإجراء أولي تجاربها النووية الصريحة. وفيما بعد صدر التقرير, وربما كان الأول من نوعه الذي يدين امتلاك إسرائيل للأسلحة النووية, ولكن ما لفت نظري أيامها فقد كان عقد واحد من اجتماعات منتدي طوكيو الأربعة في نيويورك, وكان في ذلك رمز إلي أن اليابان لا تستطيع تبني تقرير بهذه الأهمية دون تفهم أمريكي واضح. بعد ذلك جري في عام2006 لقاء أكاديمي ما بين مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام ومؤسسة اليابان حاولنا فيه ما بين القاهرة وطوكيو أن نفهم العالم وأحوال الشرق الأوسط والعلاقات اليابانية العربية. في كل هذه المرات كان يظلل كل اللقاءات والحوارات الحديث عن المعجزة اليابانية وكان المقابل لها هو العجز العربي; وعن الحيرة اليابانية إزاء ما يجري في الشرق الأوسط, وكان المقابل لها لدينا الحيرة العربية من العجز الياباني عن لعب دور في منطقتنا رغم الصحة الاقتصادية اليابانية. وبالطبع كانت هناك إجابات, أو بالأحري محاولات للإجابة علي أسئلة صعبة; ولكن الأمر كان مختلفا عن كل المرات السابقة. وكانت البداية في الطائرة عندما قرأت موضوعا في مجلة النيوزويك الأمريكية عن انهيار شركة تويوتا العالمية التي كانت شهادة في يوم من الأيام علي دقة وعظمة الصناعة والتكنولوجيا اليابانية. وهو موضوع بات متداولا في الصحف والمجلات الأمريكية والأوروبية وراج فيه العودة إلي حجج قديمة حول القفص الحديدي الذي يعيش فيه الإبداع الياباني من أول البيروقراطية الثقيلة, حتي ضعف الإبداع من الأصل, فلم يسمع أحد عن كثرة من اليابانيين حصلوا علي جائزة نوبل, ولا كان هناك في اليابان من سمع عن جوجل الياباني. علي أي حال وصلت إلي طوكيو ووجدتها كما تركتها منذ سنوات مزدحمة بكل ما غلي وارتفعت قيمته في العالم من أول الجواهر حتي السيارات, وبشكل عام بدت المدينة أكثر شبابا وحيوية. ولكن مع الحديث بدأت حقائق أخري تتكشف, وكلها تقول ان أحوال اليابان ليست علي ما يرام, وجاءت القنبلة الأولي أثناء حلقة النقاش حينما خرج واحد من الأساتذة اليابانيين عن الموضوع متسائلا عن الكيفية التي يمنع بها الشباب في الدول العربية من الانتحار. وفي البداية ظننت أن في الموضوع سوء فهم يتعلق بالهجمات الانتحارية التي قام بها الشباب العربي في فلسطين أو العراق; ولكن سرعان ما تبين الأمر وهو أن عدد الشباب الياباني الذي ينتحر كل عام وصل إلي30 ألف نسمة بينما كان العالم العربي هو أقل مناطق العالم انتحارا بين الشباب. والحقيقة أنه لم تكن لدي إجابة سوي أن ظاهرة انتحار الشباب تعود أحيانا إلي التقدم الذي يكون من نتائجه العزلة والوحدة والاغتراب, وأن المسألة شائعة في بلاد متقدمة أخري مثل السويد وغيرها من الدول الإسكندنافية. وبعد ذلك بدأت المعلومات في التراكم بعد مقابلات عدة, وربما كان أفضل من قدم تحليلا متكاملا عن الحالة اليابانية هو السيد تاكاهيرو يوكوميتشي رئيس مجلس النواب الياباني الذي أرجع ما وصفه بالتراجع الياباني إلي انفجار الفقاعة اليابانية خلال عقد التسعينيات حينما تصاعدت البورصة وأسواق المال من خلال مضاربات وقروض لا تعكس أوضاعا حقيقية حتي جاء وقت الحقيقة حيث لا تعكس الأموال أصولا تساويها. وكان ذلك هو ما جري بعد ذلك في الولاياتالمتحدة وبلاد أخري وقاد إلي الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة حينما انحرفت الأموال عن الأصول, وزاغت العيون إلي الاستهلاك علي حساب الإنتاج. ولكن الحالة في اليابان, والكلام لا يزال لرئيس مجلس النواب, جاءت من تراجع القيم الجماعية اليابانية المشتقة من المجتمع الزراعي الذي قامت عليه اليابان, وظهور القيم الفردية والاستهلاكية والأنانية التي قادت الشباب إلي الانتحار وعدم الزواج لأنه لم يعد علي استعداد لتحمل المسئولية. بدا الكلام ليس بعيدا عما نسمعه في القاهرة أحيانا حول الفرق بين الأجيال, والتحولات إلي المجتمع الاستهلاكي. , ولكن كلام صاحبنا الياباني كان يضرب في قناة الحزب الديمقراطي الحر الذي حكم اليابان تقريبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية, اللهم إلا فترة انقطاع صغيرة بين عامي1993 و1994. ومن وجهة نظره أن الحزب كان السبب وراء كل كارثة وصلت اليها اليابان, فهو سحق البيروقراطية وقلل منها, وبناء علي نصائح أمريكية أضعف من شبكة الضمان الاجتماعي. وكانت النتيجة أن الأزمة الاقتصادية بدأت في اليابان حتي قبل أن تبدأ في الولاياتالمتحدة حيث زاد معدل الجريمة وخاصة بين كبار السن, وقل حجم المدخرات, ودخلت الشركات اليابانية في نوبات من الإفلاس بعد أن بدأت الصادرات الصينية في الاستيلاء علي أسواقها. وفي الحقيقة بدا الأمر كله محيرا, ففي15 فبراير الماضي أكدت الإحصاءات التي نشرتها الحكومة اليابانية أن اليابان حافظت, وإن بصعوبة, في2009 علي موقعها باعتبارها الاقتصاد الثاني بعد الولاياتالمتحدةالأمريكية عالميا قبل الصين. وبلغ إجمالي الناتج المحلي الياباني وفقا لهذه الأرقام5.75 مليار دولار, أي أكثر قليلا من خمسة تريليونات من الدولارات, مقابل4900 مليار للصين أي أقل قليلا من خمسة تريليونات; ولكن الفارق ما بين اليابان والصين هو أن معني الأرقام بالنسبة للأولي يعني أن الناتج الياباني تراجع بنحو5% بينما حققت الصين نموا قدره8.7% خلال العام المنصرم. وإذا ما علمنا أن هذا الحجم من الاقتصاد يحققه في اليابان127 مليون نسمة بينما يحققه مليار و400 مليون نسمة في الصين, فإن اليابان لا ينبغي أن يكون لديها ذلك القدر من التعاسة خاصة أن الاقتصاد قد حقق نموا قدره4.6% خلال الربع الأخير من العام. ولكن الأمر فيه ما هو أكثر من الاقتصاد, وبشكل من الأشكال فقد جري في اليابان انقلاب سياسي بكل معني الكلمة, حينما نجح في انتخابات شهر أغسطس الماضي الحزب الديمقراطي وحصل علي الأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ وشكل الحكومة لأول مرة مع خروج الحزب الديمقراطي الحر الذي هيمن علي السياسة اليابانية طوال العقود الماضية مشكلا ما يسمي تحول في المنظومة السياسية أو تغييرا في قواعد اللعبة السياسية. وكما هي العادة في مثل هذه الأحوال فإن التحول أو التغيير كثيرا ما يرتبط باسم أو وجه أو شخصية تجسد عملية التغيير هذه, وقد كان بطلها هذه المرة يوكيو هاتوياما الذي تم تشبيهه أحيانا بشخصية كنيدي نظرا لغني عائلته, حيث كان جده لأمه مؤسسا للشركة الأكبر في عالم صناعة إطارات السيارات بريدج ستون, وبشخصية أوباما أحيانا حتي ولو كان خريجا في جامعة ستانفورد الأمريكية وليس هارفارد, نظرا للتحول الجوهري الذي أجراه في السياسة اليابانية حينما شن هجوما قاسيا علي كل تراث السياسة اليابانية وأساليبها في الحكم واعتمادها علي الشركات الكبري في الداخل, والولاياتالمتحدة في الخارج, مبتعدة في ذلك عن المنتج الصغير والمتوسط من ناحية, والفرص المتاحة لتكوين منظومة آسيوية تضم اليابان والصين وكوريا الجنوبية تستطيع خدمة مصالحها مجتمعة دون حاجة لواشنطن. هذه الأفكار جميعا لاقت شعبية كبيرة, ودفعت بالحزب الديمقراطي إلي السلطة, ولكن وصولي إلي طوكيو جاء بعد مرور سبعة أشهر تقريبا علي الفوز. وفي مثل هذه الأحوال فإن أحلام المساء كثيرا ما تبددها يقظة الصباح. وكما جري مع أوباما في واشنطن بعد سنة من توليه السلطة, حدث مع هاتوياما بعد شهور, حيث سرعان ما بدا أن استبعاد الشركات اليابانية الكبري من الحياة الاقتصادية اليابانية ليس سهلا وهي التي يقوم علي كاهلها الاقتصاد الياباني كله من أول تنمية التكنولوجيا حتي خلق الأسواق, كما أن البعد عن الولاياتالمتحدة الذي تجلي في الانسحاب من العراق وأفغانستان ورفع يد المساعدة اليابانية المقدمة للأسطول الأمريكي في المحيط الهندي, لم يعن بالضرورة تقاربا مع الصين وكوريا الجنوبية حيث لكليهما مخاوف كثيرة من التاريخ الاستعماري الياباني. وفي اليابان. فإن فشل السياسات كثيرا ما تصاحبه روائح للفساد, وسرعان ما كانت الحال كذلك كما ظهر في التساؤل عما إذا كان هاتوياما قد حصل علي تمويل غير قانوني من والدته خلال الحملة الانتخابية؟. والمسألة في النهاية أن هناك حدودا للأحلام والتمنيات, ودون المعرفة الوثيقة بأحوال العالم كما هو وليس كما يجري تمنيه, فإن النتيجة كثيرا ما تكون قدرا هائلا من خيبة الأمل. وقبل نهاية المقال, فإن ما جاء فيه هو مجرد تقرير من طوكيو عن الأحوال في اليابان, وأية مشابهة فيه مع واقع هنا أو هناك هي محض مصادفة غير مقصودة؟!. [email protected] المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد