كانت مفاجأة لمعظمنا, أن نشاهد الشعب التركي, الذي هو بلا شك أكثر الشعوب حظا في المنطقة, وهو يعلن غضبه الهادر, ونراه بدلا من تألقه عبر غزوات المسلسلات التركية, يقف علي صفيح ساخن, انه ليس سعيدا كما كنا نظن, بل هو غاضب وغاضب جدا, ويهدد بثورة جديدة في المنطقة, لكن المدهش ان هذه الثورة تأتي من شعب نعتقده مرفها, لكننا ننسي أنها البلد الأكثر كراهية لوسائل الاعلام, والذي يحتجز في سجونه اكبر عدد من الصحفيين علي مستوي العالم, ومع غياب حرية الرأي, يتصاعد الغضب دون ان نلاحظه, ونجدنا نتابع يوما بعد يوم, شعبا ينظر إليه جيرانه العرب, علي انه يمارس' بطرا علي النعمة'. عندما زار رئيس الوزراء التركي, رجب طيب اردوغان, مصر بعد شهور قليلة من ثورة25 يناير, بادر العديد من الكتاب والمفكرين المصرين علي تصويره كبطل قومي, وربما خليفة لعبد الناصر, ونموذج لحاكم المستقبل, بل وطالب احد الكتاب بان يتم اقتراضه في مصر ولو لمدة شهر واحد, وقتها رد الصحفي التركي البارز بوراك بيكدل, في صحيفة حرية ديلي نيوز التركية, في مقال بعنوان' أعزائي الإخوة العرب: نعم, يمكنكم اقتراض رئيس وزرائنا! بيكدل كان قد نال من قبل حكما بالسجن لمدة18 شهرا, بسبب نشره لمقال عارض فيه سياسة رئيس الوزراء, وقد كتب في نهاية مقاله, نحن إخوة, رئيس وزرائنا هو رئيس وزرائكم. لذا, أرجو ألا تترددوا في اقتراضه, وأرجو أن لا تشعروا أنكم ملزمين برده إلينا في أي وقت قريب. لقد أثبتت الأيام الساخنة الأخيرة, ان الشعب التركي, ليس متفقا علي هذا الاعجاب الشديد برئيس وزرائه, وقد امتلأت ميادين المدن التركية بالآلاف من الغاضبين والرافضين للرجل وسياساته, وفي يوم واحد فقط تحولت الهتافات المطالبة بإيقاف بناء مركز تجاري في قلب ميدان تقسيم الشهير في اسطنبول, الي مطالبة برحيل اردوغان وكتابة دستور جديد للبلاد, كيف تطورت الأمور إلي هذا الحد وكيف تصاعد الغضب الي درجة الانفجار؟ بالنسبة الي الكثير من الاتراك, كان التقدم الهائل الذي حققه ادورغان وحزبه الحاكم, علي مدار12 عاما, مجرد انعكاس لطموحات استبدادية متزايدة, ومع تصاعد غضب الشعب واستيائه, كان هناك تجاهل عنيد لما يشعر به بعض القطاعات التركية, لكن هذه المرة ولشرارة قد تعتبر بسيطة في نظر البعض, تدفق عشرات الآلاف من الغاضبين إلي الشوراع ولم يعودا الي منازلهم حتي الآن, وزاد من غضبهم الطريقة الوحشية التي تم التعامل بها مع المحتجين من قبل قوات الامن, ثم تصاعد الغضب اثر كل خطاب غاضب ارسله اردوغان في المقابل, انه يقابل الغضب الشعبي بغضب حكومي وهي استراتيجية شديدة الخطورة بلا شك, وقد تأتي بنتائج غير متوقعة. يري بعض المراقبين أن الأتراك يدخلون اليوم معركة اكبر واوسع, للحفاظ علي هويتهم التي سرقت منهم, بدعوي تحقيق الرخاء الاقتصادي, معركة الهوية هذه هي المعركة الأكبر التي قد تجعل مما تشهده اسطنبول اليوم, مشهدا قابلا للتصاعد, والتمدد, حيث الصراعات الدينية المعقدة, وتشابك الطبقات الاجتماعية والسياسية. انتقد إدهم إلديم, وهو مؤرخ تركي بجامعة البوسفور في اسطنبول, اصرار الحكومة علي تنفيذ مشاريع تنموية علي نطاق واسع, دون الحصول علي توافق شعبي, وقال ان رئيس الوزراء وحكومته, قد ادارت رؤسهم نشوة السلطة, فلم يعد يهمهم كثيرا الديمقراطية, لقد عادوا الي جوهر السياسية التركية عبر العقود, الاستبداد. إن من يراقب المشهد التركي عن كثب, يدرك ان حكم اردوغان الذي تجاوز العقد, قد اعاد رسم الثقافة التركية من خلال السيطرة المدنية علي الجيش, وكسر قواعد النظام العلماني القديم, ونشر وتبني رؤية اسلامية لتركيا, وادخال عناصر من المحافظين الاسلاميين التابعين للحزب الحاكم, وهم الذين يشكلون الكتلة الانتخابية لرئيس الوزراء في النظام الحكومي العميق, وايضا احتضان الحزب لطبقة رأسمالية من التابعين, انتقل اعضاؤها بأعداد كبيرة من قري الاناضول الريفية الي المدن مثل اسطنبول, ليشكلوا ما بات يعرف برجال الاناضول والذين اصبح لهم دور كبير في الاقتصاد التركي, وأصبحوا بديلا عن طبقة النخبة الرأسمالية التركية القديمة, فكان رد الفعل النخبوي لدي العديد من العلمانيين في اسطنبول, هو الشعور بان المدينة المسكينة قد تعرضت للغزو من قبل فلاحي الاناضول, غير المثقفين, الذين افقدوها هويتها ولم تعد مدينتهم التي احبوها. هذه التغيرات الثقافية اثارت غضب واستياء النخبة العلمانية القديمة, هؤلاء الذين يعتبرون انفسهم ورثة كمال اتاتورك, مؤسس العلمانية الحديثة, ومعهم الليبراليون. اما بقية ابناء الشعب فقد شعروا ايضا بالغضب وتعرضوا للكثير من الخسائر, خاصة العديد من ابناء الطبقات الدنيا والأقليات العلوية10% من السكان والكردية18%, الذين يتم دفعهم من منازلهم القديمة, وشراء الاراضي منهم لبناء مجمعات سكنية راقية ومراكز تسوق ضخمة. ثم كانت الخطة الحكومية لتحويل ميدان تقسيم الذي ظل تاريخيا مكان التجمهر الشعبي, الي مراكز حديثة للتسوق, بمثابة القشة الاخيرة بالنسبة الي البعض, مما آثار موجة من الغضب من قبل العديد من المؤرخين, الذين قال احدهم, انهم لا يتشاورون معنا قبل هدم مدينتنا. ويري سولي ازويل, الأكاديمي والكاتب التركي, أن ما تشهده تركيا الآن هي أول معركة يخسرها اردوغان منذ وصوله للسلطة, لكنه يحذر: تزواج الغطرسة مع الاستبداد هو نوع من الجنون, انها اشرس فورة مناهضة للحكومة منذ سنوات, في حين مازال رئيس الوزراء من ناحيته يقابل الاحتجاجات المتزايدة بنوع من الانكار, ويصف المحتجين بانهم حفنة من اللصوص, تم التلاعب بهم من قبل المعارضة, العاجزة عن الفوز عبر صناديق الاقتراع. الواقع ان الاحتجاجات في تركيا ليست بالشيء الجديد, وخاصة في ميدان تقسيم, لكن الاحتجاجات الحاشدة ضد حكومة اردوغان الاخيرة, التي بدأت منذ27 مايو الماضي, تعد الأكبر منذ سنوات, والأكثر قمعا من قبل قوات الامن, وهو القمع والعنف الذي يري المراقبين انه السبب وراء ارتفاع سقف المطالب وتزايد اعداد الحشود في جميع انحاء تركيا بما فيها العاصمة انقرة وحتي المدن الصغيرة مثل انطاكية, لقد بدا ان الجميع لديه مظالم تجاه الحكومة, وتجاه اردوغان, بعض المحتجين تعالت اصواتهم وهم يصرخون ارحل يا اردوغان, انك لا تدع الناس تتنفس, وصاح آخرون, اننا ضد كل شيء, هؤلاء المعارضون لسياسات الحكومة, يتجاهلون, انه بفضل هذه الحكومة تمكنت تركيا, من تحقيق نمو غير مسبوق وصل الي5% سنويا, وذلك منذ ان تولي اردوغان وحزبه الحكم عام2002, وقد تضاعف دخل الفرد ثلاث مرات تقريبا, والاقتصاد التركي هو الاسرع نموا في اوروبا, لكن كل هذا لم يشفع للرجل ولا للحزب الذي تمكن من تحقيق اصلاح للاقتصاد التركي الهش علي مدار التاريخ الحديث. لكن يبدو ان المشكلة هي في أسلوب حكم حزب اردوغان وكيف يدفع ببرامج تنمية مثيرة للجدل مع عدم الأخذ في الاعتبار بأي حال المعارضة الشعبية, انه حزب شعبوي من نوع غريب, يعتمد علي كونه حزبا ديني, ويستخدم ما يعرف بسياسة التقية لكسب التأييد الشعبي باي وسيلة, وقد عزز حزب العدالة والتنمية تغلغله تدريجيا الي داخل جهاز الدولة ووسائل الاعلام, حتي انتهي من حاجته الي مؤيديه الليبراليين, واضطرت القيادة العسكرية في نهاية المطاف الي تقبله, بعد ان جردت من قوتها مقارنة بأفرع الدولة الاخري مثل الشرطة والقضاء, وكان الحزب قد نجح ايضا في التعامل مع المسألة الكردية, واجري العديد من المفاوضات الناجحة مع حزب العمال الكردستاني عام2009, ونجح ايضا في اقامة علاقة مربحة مع الحكومة الاقليمية الكردية في العراق, كما انه ابتعد نسبيا عن الانصار التقليديين في البيت الابيض وتل ابيب, وقوي علاقته بايران وحزب الله وحتي وقت قريب بنظام بشار الاسد في سوريا, وقد فسر هذا من قبل المراقبين بهستيريا اعادة الخلافة العثمانية, اما داخليا فانه تجاهل اليسار والحركات العمالية وقمعها بشدة, يقول سونر كاجابتاي مدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن,' يبدو لي أن حزب العدالة والتنمية هو ضحية نجاحه' لقد خلقت سياساته الاقتصادية من المجتمع التركي, اغلبية من الطبقة الوسطي, التي تتمسك بحقوقها الفردية وتعترض علي فهم الحزب الحاكم للديمقراطية, فهي من وجهة نظرهم, ليست فقط بالفوز في الانتخابات, ولكنها ببناء توافق الآراء, وعدم وضع مشاريع علي رقاب الشعب, ويري كاجابتاي, انه بعد ان اصبحت الطبقة الوسطي ثرية, خلال العقد الماضي, عادت لتبني موقفا جديدا من الرأسمالية وتوغلها, وعادت لتبحث عن آخر رموز ثقافتها, وللتمسك الي اقصي حد بالحدائق العامة, حتي ولو دفعت حياتها ثمنا لذلك.