قال كثير من الباحثين إن المكان والزمان يتبادل كل منهما التأثير في الآخر، واتفقوا على أنالاثنين يقومان بتحديد ملامح وهويات الشعوب، وبينما قال بعض العلماء إن التاريخ هو ظل الإنسان على الأرض، قال آخرون إن الجغرافيا هى ظل الأرض على الزمان. وليس هناك من شك في أن جغرافيا مصر شكلت تاريخها في أزمنة متعاقبة على صعيدي الموقع والموضع في آن، حيث لعب النيل دورًا موضعيًا في نحت معالم الأرض المصرية منذ الأزل، بداية من العصور الجيولوجية الأولى التي غيرت الملامس من الصخور الجرانيتية إلى الديوريت إلى الطبقات الجيرية، وحتى العهود الحديثة التي رسمت فيها خريطة مصر، إذ تتوسطها الدلتا والوادي كنخلة خصبة فياضة الطرح، وهو ما جعل هيرودوت يقول مقولته الشهيرة "مصر هبة النيل"، ولكن الصحيح والرأي المنصف هو أن "مصر هبة النيل والمصريين معًا"، بدليل أن هناك أنهار عديدة جرت في دول شتى ولكن لم نسمع لها حضارة كحضارة المصريين. نعود لموضوعنا، وهو أن النيل أسس مصر بيئة زراعية تقوم على هندسة طبيعية من السدود والمصارف والترع، بما هيأ التركيبة البشرية لتشييد حضارة عظمى قوامها التأمل العقائدي والوهج العقلي. أما على مستوى الموقع فقد حظيت مصر بمنحة إلهية جعلتها كماسة كونية تخطف الأبصار والأفئدة، وهى ما تغنى بها العالم الفذ جمال حمدان في درته شخصية مصر، حيث يقول: ” تكاد مصر أن تنتمي في كل مكان دون أن تكون هناك تمامًا، فهى بالجغرافيا تقع في إفريقيا، ولكنها تمت أيضًا إلى آسيا بالتاريخ والجغرافيا معًا .. هى في الصحراء وليست منها، لأنها واحة ضد صحراوية .. فرعونية هى بالجد، ولكنها عربية بالأب .. إنها بجسمها النهري قوة بر، ولكنها بسواحلها قوة بحر، وهى تضع بذلك قدمًا في الأرض وقدمًا في الماء، وهى بجسمها النحيل تبدو مخلوقًا أقل من قوي، ولكنها برسالتها التاريخية الطموح تحمل رأسًا أكثر من ضخم، وهى بموقعها على خط التقسيم التاريخي بين الشرق والغرب تقع في الأول، ولكنها تواجه الثاني، وتكاد تراه عبر المتوسط، كما تمد يدًا نحو الشمال، وأخرى نحو الجنوب، وهى توشك بعد هذا كله أن تكون مركزًا مشتركًا لثلاث دوائر مختلفة، بحيث صارت مجمعًا لعوالم شتى، فهى قلب العالم العربي، وواسطة العالم الإسلامي، وحجر الزاوية في العالم الإفريقي “ وعبر هذا الطرح الموسوعي لشاعر الجغرافيا جمال حمدان، سنصل إلى إجابة شافية للسؤال التالي: لماذا كانت مصر -ولم تزل- مطمعًا استعماريًا لكل القوى الإمبريالية، فالسيطرة عليها امتلاك لمفاتيح الشرق، كما قال نابليون بونابرت: "قُل لى من يحكم مصر...أقُل لك من يحكم العالم" وهو ما يتيح الفرصة لسيادة العالم سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، وفي هذا السياق لا أستطيع أن أصم أذني عن كلمات مفجر ثورة يوليو 1952م الزعيم خالد الذكر جمال عبدالناصر، والتي تتناغم مع أفكار جمال حمدان، حيث يذكر في كتابه ( فلسفة الثورة ): ” إن القدر لا يهزل، وليست هناك أحداث من صنع المصادفة، ولا وجود يصنعه الهباء، ولن نستطيع أن ننظر إلى خريطة العالم نظرة بلهاء لا ندرك بها مكاننا على الخريطة ودورنا بحكم المكان.. أيمكن أن نتجاهل أن هناك دائرة عربية تحيط بنا، وأن هذه الدائرة منا ونحن منها. . امتزج تاريخها بتاريخنا، وارتبطت مصالحنا بمصالحها، حقيقة وفعلًا لا مجرد كلام؟.. أيمكن أن نتجاهل أن هناك قارة إفريقية شاء لنا القدر أن نكون فيها، وشاء أيضا أن يكون فيها اليوم صراع مروع حول مستقبلها، وهو صراع سوف تكون آثاره لنا أو علينا، سواء أردنا أو لم نرد؟ .. فليس عبثًا أن بلدنا تقع في شمال شرق القارة السوداء التي يدور فيها اليوم أعنف صراع بين مستعمريها البيض، وأهلها السود من أجل مواردها التي لا تحد.” هذا هو وعي الجمالين (حمدان وعبدالناصر)، وإدراكهما الحقيقي لقيمة هذا الوطن؛ وإذا تأملنا مفهوميهما فسنجد أن مصر بقدرها المحتوم تقع داخل دائرة إجبارية في هذه المنطقة من العالم على المحاور الجغرافية والتاريخية والسياسية، بما يلقي عليها دومًا عبء القيادة والحماية كوطن يملك كثيرًا من معطيات النبل والفروسية، وقد ثبت هذا عبر حقب متعاقبة استطاعت مصر خلالها أن تغيث الملهوفين من صنّاع الأفكار، وأصحاب الرسالات النبوية، وضحايا التنكيل والقهر، مثلما احتضنت المريدين والعاشقين لحضارتها الإنسانية، وأهلها الطيبين، وعقيدتها الوسطية السمحة. وهذا الدور التاريخي لم يكن فعالًا إلا في ظل يقظة ووعي زعماء من أمثال عبدالناصر الذي أيقن أن التصدي للقرصنة الغربية لن يفلح إلا بتماس مصر مع مجالاتها المحيطة بها عربيًا وأسيويًا وإفريقيًا عبر دوائر متعاشقة رسمت وجه الشرق.. فإذا كان مصدر القوة يأتي من ذلك الالتحام الوجوبي الذي لا فكاك منه، فإنه بالضرورة يحمل في نسيجه أيضًا قواسم روحية ومعرفية مشتركة، مثل العقيدة والإبداع، لذا فمن الخطأ أن نتوجه ثقافيًا صوب الغرب فقط، وهو الذي لم يكف يومًا عن التعامل معنا بلغة فوقية تحفها القرصنة، بينما ندير ظهورنا لحدودنا الشرقية والجنوبية كعمق إستراتيجي يحتاج منا لإقامة الكثير من الجسور معه على كل الأصعدة. والآن وبعد اتخاذ إثيوبيا الخطوات العملية لبناء سد النهضة، الذي سيرفع من شأنها اقتصاديًا وسياسيًا، في الوقت الذي سيؤثر بالسلب على كل من مصر والسودان في مجالات عديدة منها نقص حصتهما من المياه، ونقص الإطماء الذي سينتج عنهما بوار ملايين الأفدنة، وبالتالي سيؤثر على ملايين المصريين، بالإضافة على قلة إنتاج السد العالي من الكهرباء. والسؤال الآن ماذا ستفعل كل من مصر والسودان أمام هذا التحدي الخطير؟! وأظن أن هذه المعضلة هي أول اختبار حقيقي للنظام الحاكم في مصر، كيف سيخرج من هذه الورطة؟! وكيف سيجنب ملايين الأراضي المصرية العطش؟! لمزيد من مقالات إسلام عوض