جاء القرار الإثيوبي بتحويل مياه النيل الأزرق, استعدادا لإنشاء سد النهضة هناك أو مشروع الألفية العظيم, كما يطلقون عليه ليكشف حالة الاهتراء التي تعيشها النخبة لدينا من سياسيين, وفنيين, وعلماء, وخبراء, وليس هؤلاء فقط, بل طالت العامة والدهماء, كل حسب انتمائه وأهوائه.. فمن له أزمة نفسية مع نظام الحكم, رأي علي الفور أن الإجراء الإثيوبي هو خراب لمصر, ودمار لشعبها. ومن علي وفاق, رأي علي الفور أيضا أنه لا توجد مشكلة, وأن حصة مصر من المياه لن تتأثر, وأن مصر محروسة بعون الله, أما من ينشد الحقيقة ويسعي للوقوف علي أبعاد القضية, فقد وقع ضحية هذا العبث, بعد أن أصبح التهوين هنا والتهويل هناك في الحقيقة صراعا سياسيا داخليا غاب عنه الضمير, ومصلحة الوطن, ومستقبل شعب يبدو أنه سوف يظل فريسة الأهواء لفترة طويلة مقبلة. فإذا كنا قد اعتدنا الخلاف والشقاق حول كل ما هو شأن داخلي, من قوانين, ومشروعات قوانين, ولوائح, وأنظمة, فقد كان من المحتم أن تتآلف القلوب والعقول والجهود حول أزمة خارجية, أصبح الشعب كله طرفا فيها, خاصة أنها لا تتعلق بمن هم علي قيد الحياة فقط, وإنما تتعلق أكثر بمستقبل الأجيال المقبلة, التي قد تظل تصب لعناتها علي السابقين, وقد تدعو لهم بالرحمة, وشتان بين الموقفين. وهذه الأوضاع, التي نعيشها الآن بالتأكيد, لم يألفها الشعب من قبل, خاصة في الأزمات التي مرت بها الأمة المصرية علي مدي تاريخها, سواء كانت حروبا, أو كوارث, أو حتي مشروعات وطنية, وليس أدل علي ذلك من بناء السد العالي الذي تغني له الشعراء, وصال فيه الخطباء, وجال به السياسيون, وها نحن الآن أمام أزمة تتعلق بالسد نفسه, بطريقة مباشرة, أو غير مباشرة, فإما أن يظل يعمل بكفاءته ليظل يستحق ذلك الغناء والطرب, وإما أن يتواري مع خلافاتنا حاملا معه آمالنا الاقتصادية, وأمانينا الزراعية, لنعود إلي عصور الجفاف والقحط, وربما الجوع والعطش. في البداية.. تجدر الإشارة إلي أن السد الإثيوبي, المعروف هناك بسد الألفية الكبير, وباللغة الأمهرية هداس جاديب, هو أكبر مشروع قومي في تاريخ إثيوبيا, حيث تعول عليه في سد حاجتها من الكهرباء المنتجة منه, التي تصل إلي ستة آلاف ميجاوات, وهي تعادل ثلاثة أضعاف الطاقة الكهربائية المولدة من المحطة الكهرومائية لسد أسوان, بل تسعي إلي التصدير, وبالتأكيد من حق إثيوبيا أو أي دولة كانت أن تخطط لمستقبلها, وتقيم مشروعاتها, سواء كانت ألفية, أو نهضوية, أو عظمي, ولكن بما لا يضر بمصالح الآخرين, سواء كانت هناك اتفاقيات في هذا الشأن, كما هي الحال مع أزمتنا هذه, أو لم تكن هناك اتفاقيات, وذلك في ظل وجود قانون دولي يحكم مثل هذه المنازعات, وما يؤرق هنا بالدرجة الأولي هو درجة أمان هذا السد, التي تشير التقارير إلي أنها لا تزيد علي درجة ونصف الدرجة, في الوقت الذي يصل فيه حد الأمان في سد أسوان إلي ثماني درجات, وفي حالة انهيار هذا السد سيؤدي ذلك إلي غرق المدن المطلة علي نهر النيل من السودان حتي أسوان, التي سوف تصلها مياه السد خلال18 يوما فقط. إلا أن هناك في الوقت نفسه عشر نقاط من المهم الإلمام بها حتي تتضح الرؤية أكثر نحو هذه القضية, وهي علي النحو التالي: إن السد الإثيوبي هو سد لإنتاج الكهرباء, أي أن جميع المياه المخزونة خلفه فوق سعته التخزينية لا بد أن تمر من خلاله إلي مجري النهر مرة أخري لتوليد الكهرباء. جاء إنشاء السد علي النيل الأزرق علي بعد40 كيلو مترا من الحدود السودانية, ويعتبر أكبر مشروع لإنتاج الكهرباء من المياه المخزونة في القارة الإفريقية. بعد امتلاء بحيرة السد بالسعة التخزينية63 مليار متر مكعب علي أربع سنوات بواقع15 مليار متر مكعب سنويا, من المتوقع أن يكون فيضان النيل الأزرق أمام السد منتظما, وبمعدل الفيضان السنوي نفسه قبل البناء, أي أن مياه السد المخزنة سنويا سوف تستمر في التدفق بالمعدل نفسه, دون نقصان, ومن ثم لن تتأثر كمية المياه الواردة إلي مصر. في أثناء فترة ملء الخزان من المنتظر انقطاع15 مليار متر مكعب سنويا من إيراد النهر, ومن المنتظر أن يؤثر ذلك علي إيراد مصر والسودان علي مدي السنوات الأربع, يعود بعدها الإيراد إلي مستواه الطبيعي دون أي تأثير, وهذا العجز المتوقع من الممكن تعويضه من مخزون بحيرة ناصر الذي يبلغ163 مليار متر مكعب, منها130 مليارا قابلة للاستخدام, ومن الممكن أن يكون الفيضان مرتفعا بحيث لا يؤثر علي كمية المياه التي تصل إلي مصر. علي مدي مائة عام سابقة من1900 إلي2000 كان إيرد نهر النيل عند بداية المصب في دنقلا علي أبواب مصر82 مليار متر مكعب, بينما حصة مصر في الاتفاقية55.5 مليار, أي أن متوسط الإيراد السنوي علي مدي المائة عام كان أكبر من المقنن المائي لمصر بمتوسط27 مليار متر مكعب سنويا أو أكثر, مما جعلنا في بعض السنوات نضطر إلي فتح قناة توشكي لتصريف المياه الزائدة, وفي سنوات أخري إلي إطلاق المياه في البحر المتوسط. الخطر الوحيد الذي يمكن أن يطرأ هو حجم البخر في بحيرة سد النهضة, الذي لا يمكن أن يتجاوز10% من المخزون, أي6 مليارات متر مكعب سنويا, وهذا الحجم من مياه البخر يمكن أن يختفي في ظل التغيرات في كمية المياه الساقطة علي هضبة الحبشة, التي تتراوح بين1100 و1700 مليار متر مكعب في العام, يشكل القادم منها إلي دنقلا علي حدود مصر85% من إيراد نهر النيل. إيراد نهر النيل, الذي يبلغ82 مليار متر مكعب, يشكل6 إلي7% من كمية المياه الساقطة علي هضبة الحبشة والبحيرات الكبري معا, ويمكن لبعض المشروعات في هضبة الحبشة ومنطقة البحيرات العظمي والسودان الجنوبي زيادة هذا التدفق بمقدار10 مليارات متر مكعب علي أقل تقدير, ومن هذه المشروعات قناة جونجلي, التي يمكن أن تزيد إيراد النهر من7 إلي10 مليارات متر مكعب في العام. 90% من المياه المتساقطة علي هضبة الحبشة تتسرب إلي المياه الجوفية في السودان, مما يجعل المصدر الرئيسي للري في السودان هو المياه الجوفية, التي يقدر حجم تدفقها السنوي القابل للاستخدام بخمسة أضعاف إيراد نهر النيل عند دنقلا. يمكن بمشروعات ري مشتركة مع السودان تعويض أي نقص في المياه ناتج عن البخر في بحيرة سد النهضة عن طريق المياه الجوفية أو التحكم في مياه الأمطار التي تسقط علي السودان أو تنفيذ مشروع قناة جونجلي. خلال ربع القرن المقبل سوف تدخل إثيوبيا الغنية بمياه الأمطار منطقة الفقر المائي, أي تقل حصة الفرد من المياه عن1000 متر مكعب سنويا, وذلك بالرغم من كمية الأمطار الغزيرة التي تسقط عليها, ويمكن إقامة مشروعات تخزين مياه المطر المتعددة والمحدودة علي هضبة الحبشة للاستخدام المشترك في الزراعة هناك. ومن هنا.. تكون الإ جابة ب لا عن السؤال الذي طرح نفسه خلال الأيام الأخيرة وهو: هل سنعتبرها من الماضي عبارة المؤرخ اليوناني الشهير هيرودوت التي قال فيها: إن مصر هبة النيل؟, وذلك لأن هذا السد المزمع, الذي يبلغ ارتفاعه نحو145 مترا, وطوله قرابة الألف وثمانمائة متر, يقام في هضبة شديدة الوعورة لا تصلح لإقامة مشروعات زراعية, حسبما أكد عدد من الخبراء, والمشكلة الرئيسية تكمن في فترة ملء الخزان, التي تتفاوض حولها كل من مصر والسودان الآن لمدها إلي عشر سنوات, علي نحو يقلل من حجم الضرر الواقع علي البلدين, وخاصة أن مصر تحتاج زيادة مائية عاما بعد عام يقدرها الخبراء بأكثر من20 مليار متر مكعب سنويا عام2050 فوق حصتها الحالية, حيث يكون عدد السكان قد تجاوز ال150 مليون نسمة آنذاك. وإذا كان المخطط الإثيوبي هو الوصول بحجم إنتاج كهرباء السد هناك من ستة آلاف ميجاوات إلي عشرة آلاف في السنوات الخمس المقبلة, وإذا كان المتحدث باسم الحكومة الإثيوبية قد أعلن خلال تحويل مجري النهر, أن هذا يوم تاريخي سينحت في ذاكرة الإثيوبيين, فإنه في الوقت نفسه من المهم التذكير بأن هناك اتفاقيات حاكمة لتوزيع مياه النيل منذ عشرينيات القرن الماضي وحتي اليوم, تحتم علي دول المنابع الحصول علي موافقة مصر عند الشروع في أي إنشاءات علي النهر, ومن المهم هنا التذكير بأن أي تحكيم دولي سوف يكون في مصلحة مصر, ومن هنا فقد رفضت عدة منظمات مانحة تمويل هذا المشروع حتي لا تصطدم بالقوانين الدولية من جهة, ولعدم جدواه اقتصاديا في الوقت الحالي من جهة اخري, ولذلك فقد قررت إثيوبيا تمويله محليا بما يصل إلي خمسة مليارات دولار, وإن كنت أشك أن باستطاعتها ذلك, وأجزم بأن هناك ممولين في الخفاء, كما الداعمين في العلن, وإلا لما أسندت إدارة المشروع إلي شركة إسرائيلية! وأيا كان حجم التدخل الإسرائيلي وغيره من التدخلات المغرضة في المشروع, فإن مصر مطالبة الآن بالتمسك بتفعيل تقرير اللجنة الفنية المشتركة, التي تضم خبراء من الدول الثلاث مصر والسودان وإثيوبيا إلي جانب خبراء دوليين, وهي اللجنة التي بدأت عملها قبل عام, ومن المنتظر أن تكون قد انتهت أمس الأول من إعداد تقريرها النهائي في هذا الشأن, وهو التقرير الذي من المنتظر أن يؤكد التزام كل طرف بمبدأ عدم الإضرار بمصالح الطرف الآخر, وهو ما أكده المسئولون الإثيوبيون في تصريحاتهم علي الدوام, كما ستصبح مصر مطالبة أيضا بالعمل علي زيادة إيرادات نهر النيل من خلال الأحواض الرئيسية الثلاثة, وهي: الهضبة الإثيوبية, وهضبة البحيرات الاستوائية, وحوض بحر الغزال, وهناك العديد من الدراسات في هذا الشأن, التي تحتاج إلي تعاون مصري سوداني آن الأوان أن يكون في أعلي درجاته. علي أي حال.. تبقي ردود الفعل المصرية المتضاربة علي بدء المشروع الإثيوبي علامة بارزة علي حالة الارتباك الضاربة في المشهد السياسي الداخلي لدينا, إلا أن ما أثار الاطمئنان هو تأكيد مجلس الوزراء, خلال جلسة أمس الأول, أن مصر لن تقبل بأي مشروعات علي النيل من شأنها الإضرار بمصالحها المائية, ولكن يبقي أن نؤكد أن دولة ضعيفة لن تستطيع أبدا أن تتفاوض حتي لو كانت هي صاحبة الحق, ودولة مهترئة لن تجد أي دعم خارجي حتي لو كانت مضارة بالفعل.. وهو الأمر الذي يؤكد أننا يجب أن نبدأ بأنفسنا من الداخل أولا قبل مواجهة الموقف علي الساحتين الإقليمية والدولية, وأن نتناسي خلافاتنا ونرتفع إلي مستوي المسئولية في مثل هذه المرحلة الاستثنائية, وإذا كنا نناشد الآخرين اللجوء إلي طاولة الحوار, واحترام الاتفاقيات المبرمة, فالأولي بنا أن نقدم النموذج من الداخل حتي نستطيع أن نقدم أنفسنا للعالم الخارجي كشعب متماسك, وجبهة داخلية فاعلة, أما إذا استمرت لغة التسييس لكل ما هو عكس ذلك, والتهوين من كل ما يمثل خطرا, والتهويل لكل ما هو طبيعي, فإن مياه النيل سوف تكون مجرد بداية لأزمات أخري أعظم شأنا. لمزيد من مقالات عبد الناصر سلامة