في مثل هذا اليوم من75 عاما ولد الحكاء المبدع يحيي الطاهر عبد الله, وعلي الرغم من مرور32 عاما علي رحيله في هذا الشهر, فإنه يحفر كل يوم مزيدا من نقوش التألق والتفرد في وجداننا الأدبي العربي, فلا يزال حتي هذه اللحظة أديبا ثائرا علي القهر والاستبداد والتابوهات المسكوت عنها من أسرار حياتنا اليومية, كما يظل قادرا علي إبهارنا بعالمه الجنوبي الساحر الذي لا يزال حكرا عليه بما يضمه من مفرداته الخاصة التي جعلت عددا من النقاد يطلقون علي أدبه مصطلحا نقديا جديدا وهو القصة القصيدة. ماجد كامل فارق يحيي الطاهر الحياة عن43 عاما إثر حادث سيارة علي طريق القاهرة الواحات( أبريل1981), ليحدث رحيله المفاجئ صدمة حقيقية في الأوساط الثقافية والأدبية العربية, لما كان يحمله أدبه من طابع متفرد وضعه في منزلة خاصة بين كتاب القصة العرب, وهي المنزلة التي تتعمق بمرور السنوات, وتوالي ترجمات أعماله القصصية للانجليزية أولا لتتبعها ترجمات أخري إلي اللغات الإيطالية والألمانية والبولندية, كما توالت طبعات أعماله, والتي كان آخرها ما أصدرته مكتبة الأسرة منذ نحو عامين من طبعة تضم أعماله الكاملة, والتي تعد إعادة نشر للطبعة الثالثة التي صدرت عام2005, وجاءت بمقدمتين, الأولي للدكتور جابر عصفور, والثانية لابنة الأديب الراحل أسماء يحيي الطاهر, وكانت الطبعة الأولي عام1983 والثانية1993 عبر دار المستقبل, بينما أصدرت دار العين الطبعة الثالثة عام.2005 التمرد علي القوالب وعلي رغم قصر تجربته الأدبية نسبيا, والتي تصل إلي نحو عشرين عاما فقط, فإن أدب يحيي الطاهر جاء متمردا للغاية علي القوالب الثابتة في القصة, حيث أوجد لغة خاصة به امتزج فيها الحكي أو السرد بلغة شاعرية وإيقاعات منغمة ليطلق عليه عدد من النقاد اسم شاعر القصة, في الوقت الذي أطلق البعض الآخر علي أدبه اسم القصة القصيدة. فقد لعب يحيي الطاهر في مناطق غير مأهولة أدبيا, فحلق ببراعة فائقة في عوالم جديدة من الكتابة, وكشف لنا عن مناطق مجهولة ومسكوت عنها في الحياة اليومية في قري الجنوب التي يعرف كل دقائقها,ثم حين انتقل إلي القاهرة كان رائدا في نقل العوالم السفلية لصعاليك المدينة. ويخلط يحيي الطاهر في حكاياته عبر أعماله القصصية والروائية بين الحكي والأسرار والتابوهات علي خلفية من التراث وحضور قوي لعالم الأسطورة والخرافة, ويستخدم يحيي الطاهر الرمز ببراعة في أعماله, ليعبر من خلاله عن انسحاق المواطن تحت وطأة آلات القهر والظلم. وفي مقدمته للأعمال الكاملة, يقول الدكتور جابر عصفور: كانت قصة جبل الشاي الأخضر أول ما لفت انتباهي إلي كتابة يحيي الطاهر عبد الله, حفرت حضورها في ذاكرتي بوصفها مثالا دالا علي عالم يحيي الذي تجسد أول ما تجسد بقرية كالكرنك, وجسدها بوصفها نموذجا لأشباهها من القري الغارقة في الفقر والخرافة. المثلث الأدبي تبدأ أول مشاهد رحلة يحيي الطاهر مع ميلاده في30 أبريل1938 بقرية الكرنك بمحافظة قنا, حيث ماتت أمه وهو صغير فربته خالته, وتلقي تعليمه بالكرنك حتي حصل علي دبلوم الزراعة المتوسطة, وعمل بوزارة الزراعة فترة قصيرة حتي انتقل إلي مدينة قنا عام1959, وهناك التقي الشاعرين عبد الرحمن الأبنودي وأمل دنقل, ليشكلوا عند انتقالهم للقاهرة مثلثا أدبيا متميزا عبر رحلة صداقة طويلة. وفي عام1961, كتب يحيي الطاهر أولي قصصه القصيرة( محبوب الشمس), وأعقبها( جبل الشاي الأخضر), وفي نهاية شتاء عام1962 انتقل عبد الرحمن الابنودي إلي القاهرة, بينما انتقل أمل دنقل إلي الإسكندرية, وظل يحيي الطاهر مقيما في قنا لمدة عامين ليلحق في عام64 بالأبنودي في القاهرة, حيث أقام معه في شقة بحي بولاق أبو العلا, وكتب فيها بقية قصص مجموعته الأولي( ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالا). وبطبيعة الحال, فقد جاء انتقال يحيي الطاهر إلي القاهرة بمثابة شرارة انطلاقه وميلاده الأدبي, فقد تحمس كبار الكتاب له, لتبدأ شهرته كواحد من أهم وأبرز القصاصين والروائيين المصريين الذين شكلوا ما عرف بعد ذلك ب جيل أدباء الستينيات, وأخذ الطاهر في خطوته الأولي بالقاهرة يتردد علي المقاهي والمنتديات الثقافية ليعرف خلالها كظاهرة فنية متميزة, فقد كان يلقي قصصه, التي كان يحفظها بذاكرة قوية إلي حد الغرابة, منشدا إياها كأنها قصائد, ودونما اعتماد علي أي أوراق, وكان يري في ذلك محاولة لتقريب المسافة بين كاتب القصة والرواة الشعبيين, وخلال إلقائه إحدي قصصه في مقهي ريش الشهير بوسط القاهرة, والذي ظل لسنوات بمثابة الملتقي الأدبي والثقافي لكتاب الستينيات, استمع إليه الأديب الكبير الراحل يوسف إدريس فقدمه في مجلة الكاتب, كما قدمه عبد الفتاح الجمل في الملحق الأدبي لجريدة المساء, ليبزغ بعدها نجمه, وتلتفت إليه الأوساط الثقافية والأدبية. تقنيات جديدة والكتابة عند يحيي الطاهر هي انحياز لقضايا بعينها, وهي فهم كيف يعيش البشر البسطاء في ربوع مصر, ولاسيما في جنوب وادي النيل, وكيف يرتبط الناس بالمكان وما يحويه من حياة وأسطورة, وكيف يكون الحكي والقص إعادة بناء لعلاقة البشر بالحياة والمكان بناء علي تراكم الخبرات والثقافة الحية بما يساعد علي إضاءة تجربة الوجود الإنساني, ولذلك فإن أعمال أي كاتب تفصح عن رؤيته في الحياة, لأن كل كتابة تقدم فلسفة خاصة في الكتابة وفهما لدورها في الحياة, وتعكس مسئولية الكاتب تجاه القارئ. وتجربة يحيي الطاهر فريدة في عالم الكتابة, لأنه كان شديد الحرص علي أن تعكس الكتابة تجربته الشخصية, ليس بمعني الحديث عن الأحداث التي يمر بها في حياته, ولكن بمعني أن تعكس فهمه لأحداث الحياة. ومن بين أهم الأعمال المتميزة ليحيي الطاهر عبد الله, قصته الطويلة أو روايته القصيرة( تصاوير من الماء والتراب والشمس) التي صدرت طبعتها الأولي في يوليو1981 عن دار الفكر المعاصر. ويأتي التميز في قدرة المبدع علي تصوير الواقع والشخصيات: الواقع بعموميته والشخصيات بتفردها, لنصل إلي حالة( واقع الشخصيات) وذلك بلغة الفن, تلك اللغة القادرة علي امتصاص الواقع بحيث يصعب الفصل بين الاثنين, ويكون الواقع مجسدا بلغة الفن, ولكن لا يكون الفن نقلا للواقع. ويبدو تميزه( ثانيا) في أنه قد اختار أشخاصا وواقعا يصعب تصويرهما, إلا إذا اندمج الكاتب فيهما وتعايش معهما, إذ ان القصة تتناول الواقع المسكوت عنه للمجتمع, الواقع المعتم, الواقع ال( تحت تحتي) إن جاز التعبير, ليس واقع المهمشين, كما هو التعبير الشائع, ولكنه واقع الخارجين عن الواقع, ففي هذا الواقع الذي تنعدم فيه أدني وسائل المعيشة الإنسانية, فلا سكن ولا وظيفة ولا أسرة, يتعرف القارئ علي شخصياته: قاسم الذي بدأ حياته في القاهرة شيالا في سوق الخضار, وانتهي بالانخراط في حياة الصعاليك بعد وفاة ابنه وأم ابنه, ثم شخصية رجب الذي تخصص في سرقة الطيور من البيوت, وشخصية فتح الله اللص المحترف المتخصص في سرقة الأشياء الثمينة من منقولات وبيعها للمتخصصين, ثم شخصية إسكافي المودة الذي ترك مهنته وأسرته, وأدمن شرب الخمر الذي لا يستطيع التوقف عنه, كما أنه لا يستطيع التوقف عن الاحتيال من أجل الحصول علي هذا الخمر, فنتج عن ذلك علاقة عضوية بين أساليب الاحتيال والحصول علي هذه الخمرة. وكان الكاتب موفقا إذ جرده من اسم مميز كأي إنسان يحمل اسما, واكتفي بمهنته التي لا يزاولها( إسكافي المودة), وان كانت كل تصرفاته وأقواله تشير إلي شخصية خالدة في الأدب المصري, شخصية تظل حية في عقل ووجدان القارئ, يتذكرها كلما تذكر يحيي الطاهر عبد الله, إنها شخصية المحتال الأعظم, صاحب فلسفة في الصعلكة والاحتيال والموت والحياة. إن يحيي الطاهر يتمتع بوعي قوي بمفردات الشخصية المصرية, وقدرة علي صياغة هذه المفردات بلغة الفن, اللغة التي تعيد تشكيل الواقع والشخصيات, ولكن انطلاقا من هذا الواقع, لغة الفن التي تحوي وتعبر عن أهم خصائص الإبداع, أي الصدق الفني, ذلك الصدق الذي يتوج بتعاطف القارئ مع الصعاليك المشوهين المتمردين علي واقعهم, علي رغم رفضه لسلوكياتهم. لقد اختار يحيي الطاهر عبد الله لقصته عنوان( تصاوير من الماء والتراب والشمس), وهو عنوان دال يرمز للعلاقة بين مكونات الطبيعة الماء والتراب والشمس وبين الحياة.. ومن خلط التراب بالماء يتكون الطين, والطين بعد أن يتشكل, ولكي يجف, وقبل اكتشاف النار, فإن الشمس هي العنصر المكمل لقصة الخلق في الأساطير التي أبدعتها الشعوب في العصور القديمة. ففي الأساطير المصرية القديمة, فإن الإله قد خلق الانسان علي آلة الفخار, وفي ثقافات الشعوب المختلفة, خلق الإنسان من تراب وإلي التراب يعود, وهكذا هي مسيرة الحياة من لحظة الميلاد إلي لحظة الموت, وهي المسيرة التي أكدها المحتال الأعظم- الإسكافي- فيلسوف المودة والتسامح والحب والتمرد والغضب منه وعليه وعلي الواقع الذي أفرزه. رغم الرحيل ويبدو أن قصيدة الجنوبي للشاعر الراحل أمل دنقل, والتي خاطب فيها أسماء ابنة يحيي الطاهر قائلا: ليت اسماء تعرف أن أباها صعد, قد تماست مع أوتار الواقع الذي نحياه, فبالرغم من ذكري رحيل ذلك الجنوبي المبدع الثانية والثلاثين, فإن أدبه لا يزال يحيا بل ويزداد رفعة وسطوعا وتألقا بمرور الأيام والأعوام, واليوم نطفئ معا شمعة ميلاده الخامسة والسبعين.