الحوار الوطني يناقش الحبس الاحتياطي.. اليوم    محافظ القليوبية يجرى جولة مفاجئة بمدينة كفر شكر لمتابعة المشروعات    وزارة التموين: تطوير 9 مطاحن وزيادة القدرة الإنتاجية ل1970 طن دقيق يوميا    «المشاط»: تطوير سياسات الاقتصاد الكلي بهدف دفع جهود التنمية وزيادة الاستثمارات في قطاعي الصحة والتعليم وتوطين الصناعة    حمدوك: نعول على مصر كثيرا في المساعدة لحل الأزمة السودانية    دبلوماسي ألماني: وصول ثالث بطارية نظام باترويت المضاد للطائرات إلى أوكرانيا من ألمانيا    أفشة وشريف ينعيان أحمد رفعت    طلب مفاجئ من ماجد سامي بعد وفاة أحمد رفعت| عاجل    محامي سفاح التجمع يكشف ل«البوابة نيوز» سبب تنحيه عن القضية    التعليم: تشكيل لجنة خاصة لتصحيح أوراق إجابات الطلاب بالكامل في لجنة ثانوية عامة بالدقهلية بسبب الغش الجماعي    محمد رياض يكشف سبب تأجيل موعد افتتاح الدورة الجديدة ل«القومي للمسرح»    عاجل| سبب وفاة أحمد رفعت.. ما هو اختلال كهرباء القلب؟    الخشت يكشف أسباب تقدم جامعة القاهرة في التصنيفات الدولية    ستارمر: الدفاع والأمن على رأس أولويات الحكومة البريطانية الجديدة    بعد حادثة وفاة مستشارة الرئيس السوري.. معلومات لا تعرفها عن «لونا الشبل»| صور    الحوار الوطني يناقش توصيات المرحلة الأولى ويفتح ملف الحبس الاحتياطي    وفد من جامعة «كوكيشان» اليابانية يتابع الخطة التدريبية للمسعفين    هل نجح الزمالك في إنهاء أزمة إيقاف القيد ..مصدر يوضح    المصارعون الروس يرفضون المشاركة في الأولمبياد    «إيمان» و«آيات» شقيقتان متطوعتان في «حياة كريمة»: «غيرت حياتنا وبنفيد غيرنا»    وزير الزراعة يؤكد ضرورة التيسير على منتفعي الإصلاح الزراعي وتقنين أوضاعهم    تأجيل محاكمة المتهمين باختلاس تمثال أثري من المتحف المصري الكبير ل7 أكتوبر    مصرع شخص أسفل حفرة أثناء التنقيب عن الآثار    بيع القمامة بدلًا من إلقائها.. بورصة إلكترونية للمخلفات ومصانع التدوير    إصابة شابين بالرصاص الحي خلال مواجهات مع قوات الاحتلال في شرق نابلس    «الحزن والضغط النفسي» أسباب وفاة أحمد رفعت .. وخالد تاج الدين يوجه رسالة مؤثرة بعد رحيله    أحدث ظهور ل ياسمين عبد العزيز داخل الجيم..والجمهور: "خسيتي وبقيتي قمرين"    دعاء للأم في ليلة رأس السنة الهجرية    انطلاق أولى حلقات الصالون الثقافي الصيفي بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية    مفتي الجمهورية يهنئ المستشار عبد الراضي صديق برئاسة النيابة الإدارية    الكشف على 706 مواطنين في قافلة طبية مجانية بقرية الحلفاية بحري بقنا    بعد الانتهاء من المراحل ال3.. «الري»: الرفع المساحي للأحوزة العمرانية ل4200 قرية (تفاصيل)    وفاة عاملان صعقا بالكهرباء داخل مزرعة مواشى بالغربية    السعودية هوليوود الشرق!    أجواء مميزة وطقس معتدل على شواطئ مطروح والحرارة العظمى 29 درجة.. فيديو    رابط نتيجة تنسيق رياض الأطفال بالإسكندرية 2024    جهود التحالف الوطني في الدعم الاجتماعي والصحي خلال أول 6 أشهر من 2024    يورو 2024 - ناجلسمان: تعويض كروس سيكون صعبا.. وأقاوم الدموع    للاستشارات الهندسية.. بروتوكول تعاون بين جامعتي الإسكندرية والسادات- صور    تجميل غرف الكهرباء بحرم جامعة حلوان    عاجل | ننشر أسماء المحكوم عليهم بالإعدام شنقًا في "حرس الثورة"    بالأسماء، وزير الداخلية يأذن ل 21 مواطنا بالحصول على الجنسيات الأجنبية    حكم صيام أول محرم.. «الإفتاء» تحسم الجدل    الاتحاد الأوروبي يرفض قصف وإجلاء المدنيين صباحا ويدعم الاحتلال بالأموال ليلا    رئيس الوزراء يوجه بالإسراع في تنفيذ مبادرة «100 مليون شجرة»    لطلاب الثانوية العامة، أفضل مشروبات للتخلص من التوتر    وزير الخارجية: مصر تسعى لدعم دول الجوار الأكثر تضررًا من الأزمة السودانية    ما الحكمة من اعتبار أول شهر المحرم بداية العام الهجري؟ الإفتاء تُجيب    خبيرة فلك: ولادة قمر جديد يبشر برج السرطان بنجاحات عديدة    مصر وسوريا تشددان على الرفض التام لمحاولات تصفية القضية الفلسطينية أو تهجير الفلسطينيين.. الرئيس السيسى يؤكد ل"الأسد" مواصلة الجهود الرامية لوقف إطلاق النار بقطاع غزة وإنفاذ المساعدات الإنسانية بصورة مستدامة    مفتى الجمهورية: التهنئة بقدوم العام الهجرى مستحبة شرعًا    ماذا يريد الحوار الوطنى من وزارة الصحة؟...توصيات الحوار الوطنى تضع الخطة    الصحة تطمئن على جودة الخدمات المقدمة بمستشفى عين شمس العام    يورو 2024| تشكيل منتخب إنجلترا المتوقع لمواجهة سويسرا    وفاة اللاعب أحمد رفعت إثر تدهور حالته الصحية    «في الساحل الشمالي».. شوبير يكشف عن أولى صفقات الأهلي (فيديو)    الداخلية الإيرانية: تقدم بزشيكان على جليلي بعد فرز أكثر من نصف الأصوات    احتفالات السنة الهجرية الجديدة 1446 في العراق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصر ياولاد
نشر في الأهرام اليومي يوم 24 - 12 - 2011

أنا قلت لروحي الحمد لله انكشف المستور وانفضح الغموض ورفع الستار وانبلجت الحقائق وظهر اللهو الخفي‏,‏ بعدما سلطت الأضواء الكاشفة الفاضحة عن شخصية الجناة الحقيقيين الذين عاثوا في الأرض فسادا. وقطعوا أوصال مصر الوطن والأم والملاذ في أحداث إمبابة والسفارة الإسرائيلية وماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء وقصر العيني.. الخ..الخ.. حمدا وشكرا للمولي فقد ألقت السلطات القبض علي الأشرار الذين تمت إحالتهم إليالمحاكم المدنية وليست العسكرية طبقا للمطالب الثورية, وذلك بعدما انتقلت إليميدان الجريمة دوائر البحث والتقصي ورجالات المتابعة والاستدلال.. أخيرا رأيناهم فيالمواجهة علي الشاشة رأي العين بلا تمويه أو قص أو لصق أو ترقيع.. أخيرا الآثمون تحت الأنظار تتابع الكاميرات الراصدة خلجات وجوههم وتعبيرات سحناتهم وما تنطق به ألسنتهم من اعترافات.. أخيرا أدخلنا الوحوش القفص بعدما طال البحث عنها حتي مللنا طول البحث والانتظار.. أخيرا أمسكنا برأس الحربة التي تروع حياتنا وتهدد كياننا وتدمر اقتصادنا وترمل نساءنا وتيتم أطفالنا وتؤرجح بورصتنا وتجمد سياحتنا وتشمت أعداءنا وتكسر قلوبنا وأرصفتنا شذرات شذرات... الجميع كان فيانتظار اللحظةالحاسمة.. الكل كان مستنفرا لرؤية اللقطات الفارقة.. لحظات التوتر تشد حبال الأعصاب علي شفا تمزيقها.. لحظات حبس الأنفاس تسبق المشهد الجلل فبعدها يأتي المراد للعباد..و.. الصدمة الحارقة.. مسرح بريخت يعرض اللامعقول.. العتاة الجناة أمامنا علي الشاشة محمد وسعيد وعلي ثلاثة أطفال معطوبين مذعورين ليسوا في عمر الزهور فأبدا لم تنبت خلال أعمارهم الصغيرة المجففة أية زهور, وإنما صبار وأشواك وأوراق البانجو.. أحدهم زرقته منتفخة من أثرالكدمات, والثاني صنعت سطور الدماء علي وجهه خريطة لا يكاد يبين من بين تضاريسها المنبعجة سوي حدقات عيون زائغة وبقايا شفة مشقوقة دامية, وثالث مرتعش يجيب علي أسئلة لا نري سائلها لكن السؤال الكرباج اللامرئي يهبط علي الكيان النحيل فيعترف اللسان المتلعثم بالجريمة النكراء, والاعتراف في شرع القانون سيد الأدلة: ورحنا حرقنا مبني العلمي في قصر العيني.. و..حمدا لله ظهر الحق وزهق الباطل مع فارق بأن الباطل لا يمثله هؤلاء الموؤدون أحياء محمد وسعيد وعلي وإنما فيمن أصبح الوطن لا يمثل لهم سوي أرض الغلبة والانتقام, حتي باتوا يوزعون علي البلطجية والمسجلين خطر وأصحاب السوابق الخوذات قبل إطلاقهم من جحورهم كالجراد المبرمج لحرق الأخضر واليابس, وقد رأينا اعترافهم السادي السافر علي الشاشات بتوزيع الخوذات بدعوي حماية الاعتصام.. الباطل في مصاصي دماء مصر الملعونين علي أرضها وفي سمائها الذين جرفوا خيرها ونهبوا أرضها وهربوا أموالها واحتسوا دماءها في كؤوس جماجم أطفالها نتاج زنا المحارم, النيام تحت الكباريوالأرصفة, المحشورون في الملاجئ المنهوبة زكاتها المنتهكة عذريتها المحطمة أبوابها وأسوارها..
وترسل الدعوات المؤطرة بذهبياتها للمؤتمر المعني بأطفال الشوارع ونجتمع وننفض بعدما تقبل المؤتمرة مثيلتها المعطرة علي جانبي هواء الوجنتين المحقونتين لتثني علي موديل حقيبتها المستوردة, ونخرج إلي بوفيه السيمون فوميه إثر خطابنا بالعربية واللغات الأجنبية ومناقشة القضية المستعصية بعد العديد من ورش العمل علي الطريقة الأمريكية, واستضافات تأتي من بلادها تحكي تجاربها اللامجدية في المسألة الشائكة, لنخرج بعدها بالتوصيات المحفوظة التي تسبقها العبارة الروتينية الممجوجة التي لا تلقي اعتبارا أو اهتماما أو التفاتا أو حتي إلقاء النظر تماما مثل شرح مضيفة الطائرة لخطوات النجاة باستخدام الحقيبة الموجودة تحت المقعد وهي عبارة أن أطفال الشوارع بمثابة القنابل الموقوتة...
وها هو التوقيت قد حان ودقت ساعة انفجار قنابل البؤس والهوان والإهمال في وجوهنا وظهورنا وصدورنا وأمننا ومصرنا, ولم يعد هناك وقت لفتح حقائب ما تحت المقاعد فالطائرة تتهاوي بنا بلا مظلات أمان, وأمامنا حريق وتحتنا غريق, وكان فيالإمكان أن نحول تلك القنابل إلي أكياس من حلوي ومزارع من تفاح وغيطان من سنابل وجنات غناء وكساء وغذاء وأمن ومسكن وعلم وكتاب.. وكان الثمن زهيدا.. مليار واحد لا غير يتنازل عنه طوعا أو جباية أحد مصاصيالدماء من تل مليارات نهبوها وخبؤوها في آخر الدنيا تحسبا لليوم الأسود, وها هو اليوم الأسود قد أتي عليهم وعلينا لتغرق بنا السفينة معا, بينما لم يكن ذلك المليار سيمثل لأي منهم ومنهم من لم يزل يجنيه مضاعفا يوميا بيننا أكثر من ميزانية حفل زفاف بمطرب عالمي, أو ثمن طائرة خاصة لامعة تقف علي أهبة الاستعداد لوليمة عشاء في مكسيم باريس, أو لنش يجوب أعالي البحار بشلة الأصدقاء, أو ديكورات قصر جديد قد لا يتسع الوقت لقضاء ليلة واحدة فيه.. مليار واحد يا كلاب النهب والسلب والسعار وضياع البلد كان حتما سينزع فتيل القنبلة التي أودت بحياة كتاب وصف مصر!..
هذا الكتاب يا محمد يا ابني اندفعتم كالقذائف الممنهجة لحرقه بكرات النار, ورقصتم رقصة الموت علي جثته, وعندما استشرت ألسنة الدمار في مبناه الأثري وتعالت أنات استغاثات أوراقه وتأوهات مفاصل خرائطه انتشيتم بتحقيق الهدف من بعثتكم الغوغائية المارقة الحارقة.. تمايلتم طربا لدقة تنفيذ الأوامر التي ستأتي بمكافأة الخمسين والمائة والطعام والخدر الذي يجعل من الأجساد حشوا من قطن لا رجع فيها للطم أو ضرب.. رفعتم أصابعكم الملوثة بدماء العقول بعلامة النصر انتقاما من الوطن والأم والعلم.. ثلاثية الطرد التي حولتكم لقنابل موقوتة, فقد نبذكم الوطن, ولفظتكم الأرحام لأرض الطريق, ولم يعن لأحد أن يغسل الطين من علي وجه أحدكم ويقلم أظافره ويمسك بيده ليعلمه فك الخط وحفظ سورة من القرآن ترشده للحلال والحرام.. فوقعتم في شباك الصياد فريسة سهلة يجعلها يده الطولي للخراب.. هذا الكتاب العملاق يا نبتة إهمالنا وأنانيتنا لم يسبق لأحد أن شرح لكم مغزاه أو قيمة مبناه الذي راح في حريقه إلي جانبه خمسين ألف كتاب.. و.. من قبل احترقت مثله في يناير الماضي آلاف الكتب والموسوعات النادرة من أيام محمد علي حتي عام1979 مع كافة وثائق ثورة يوليو التي شغلت18 مجلدا وذلك فيالحريق المتعمد للمجلس الأعلي للصحافة في الدورين السابع والثامن الذي امتد ليأكل مبني الاتحاد الاشتراكي كله واجهة النيل الذي تنظر إليه النوافذ بأحداق مفحمة ودموع من سناج تشكو ظلم من لم يعد إنسانا, وحاشا لله أن يكون حيوانا, بل إبليس من نسل الشياطين هدفه محو ذاكرة أمتنا وجعلنا مع سبق الإصرار والحرق بلا هوية..
هذا الكتاب وصف مصر الذي حرقته يا محمد قام بتأليفه مائة وسبعون من صفوة العلماء والفنانين الشبان في فرنسا الذين قدموا مع حملة نابليون وحملوا معهم إلي أرض مصر مكتبة تضم خمسمائة كتاب إلي جانب دائرة معارف كاملة, وسجلات أكاديمية العلوم, وأعمال الشاعر فولتير, والقرآن الكريم, والكتابات المقدسة عند الهندوس, ومطبعتين واحدة للغة العربية وأخري لليونانية, وبعد وصول الحملة أصدر بونابرت أمرا في2 أغسطس1798 لاختيار مبني مناسب ليضم مقر المجمع العلمي, وتم اختيار مجموعة من القصور في ضاحية الناصرية بالسيدة زينب تصلح لوضع المرصد والمعمل الكيميائي وورش الهندسة, وكانت بقصر قاسم بك قاعة اجتماعات رفيعة المستوي يجتمع فيها العلماء أعضاء المجمع لتبادل الأفكار, وفي أول اجتماع له في23 أغسطس1798 تم انتخاب بونابرت نائبا للرئيس المنتخب مونج العالم الرياضي, وأصر نابليون علي أن ينادي بالمواطن بونابرت, وبينما الجيش منهمك في مطاردة المماليك كان العلماء والباحثون يتجمعون تحت خمائل حدائق القصر يتنسمون الهواء العليل ويستمعون إلي أوراق أبحاث مثل الظاهرة البصرية التي تعرف بالسراب وبعض الملحوظات عن جناح النعامة, وكان الكيميائي بيرتولي يقرأ لهم بحثه عن الأمونيا وعن طرق المصريين لإنتاج صبغة النيلة النباتية, واقترح عليهم العالم دوتيتر خطة عامة لإنشاء مدرسة مصرية لدراسة الجاذبية الدقيقة الشعرية الكهرباء, وكثيرا ما كان العالمان فوربي وكوري يأخذان جانبا عن الجمع لمناقشة الرياضيات الرفيعة, وانصبت اهتمامات نابليون علي دراسة كيفية تدبير مواد الوقود اللازمة لأفران الجيش, وما هي الوسائل الناجعة لترشيح وتبريد ماء النيل, وما هو الأنفع لمصر: طواحين الماء أم طواحين الهواء, وهل في مصر مواد أولية لصنع البارود, وما هي حالة التعليم والتشريع والقضاء المدني والجنائي وإمكانية التدخل لإصلاحها, وكيفية الاستفادة من قمامة القاهرة وسائر مدن القطر, والبحث فيما إذا كانت الأرض هي الكوكب الوحيد المسكون؟ وكم عمرها؟ وهل مسألة تفسير الأحلام صحيحة؟.. وفيما إذا كان إصرار رجاله علي عدم التختن يمنع اعتناقهم للاسلام ؟ وكان بونابرت قد طلب قائمة من الضروريات لتأتيه عن طريق البحر من فرنسا من بينها فرقة من الممثلين, وفرقة من راقصات الباليه, وثلاثة أو أربعة علي الأقل من ممثلي مسرح العرائس لعامة الشعب, وزوجات جميع العاملين معه في الحملة, وعشرون جراحا, وثلاثون صيدليا, وعشرة أطباء, وعمال للمسابك, وخمسون بستانيا وعائلاتهم, وبذور لمختلف أنواع الخضر, و300 ألف ذراع من القماش الأزرق والأحمر, وصابون وزيت... ولم يصل من هذا كله شيء لنابليون, فقد غرق الأسطول الفرنسي!
وقد دعا بونابرت طلبة الأزهر وعددهم1200 طالب لحضور مناقشات المجمع, وكان معهم المؤرخ الجبرتي الذي جاء في وصفه للمجمع: في بيت حسن كاشف جملة كبيرة من كتبهم ومباشرون يحفظونها ويحضرونها للطلبة, وإذا حضر إليهم بعض المسلمين ممن يريدالفرجة لا يمنعونه الدخول إلي أعز أماكنهم ويتلقونه بالبشاشة والضحك وإظهار السرور, خصوصا إذا رأوا فيه قابلية أو معرفة أو تطلعا للنظر في المعارف فيحضرون له أنواع الكتب المطبوع بها أنواع التصوير وكروت البلاد والأقاليم والحيوانات والطيور وتواريخ القدماء وقصص الأنبياء بتصاويرهم ومعجزاتهم, وقد ذهبت إليهم مرارا وأطلعوني, ومن جملة ما رأيته كتاب كبير يشتمل علي سيرة النبي صلي الله عليه وسلم, وفي صفحة أخري صورة الخلفاء الراشدين, وفي الأخري صورة المعراج والبراق وبيت المقدس والحرم المكي والمدني, وكذلك صورة الأئمة المجتهدين والسلاطين واسلامبول وما بها من المساجد العظام كأياصوفية, وكثير من الكتب الإسلامية مترجم بلغتهم, ورأيت عندهم كتاب الشفاء للقاضي, والبردة للبوصيري التي يحفظون أبياتها وترجموها بلغتهم, ورأيت بعضهم يحفظ سورا من القرآن, وعندهم كتب مفردة لأنواع اللغات وتصاريفها واشتقاقاتها قواميس بحيث يسهل عليهم نقل ما يريدون من أية لغة إليلغتهم في أقرب وقت..
كتاب وصف مصر يا محمد المطبوع علي ورق خاص أنتجته خصيصا مدينة آرش بمنطقة فوسجي ومقاس اللوحات فيه بأحجام غير مسبوقة تصل إلي1354*704 ملليمتر, وبذا فقد صور حجر رشيد بحجمه الطبيعي, وقد أتاح الكتاب الفرصة لعدة اختراعات مطبعية منها القلم الصناعي الذي اخترعه العالم كونتيه ليقوم برسم الخطوط الرفيعة والنقوش الغائرة, وقد أحدث ثورة في عالم طباعة النسيج والورق الملون باختراعه الثاني لماكينة كبس اللوحة أوتوماتيكيا مما أمكن خلال يومين أو ثلاثة نقش عدد من اللوحات كانت تقتضي ثمانية أشهر من العمل اليدوي.
وكانت المهمة الرئيسية لفناني الحملة تسجيل كل مشاهداتهم في مصر حتي النقوش التي ظهرت علي أوراق البردي رسموها دون أن يعرفوا معانيها.. رسموا معابد الأقصر ودندرة والجوامع في قاهرة المعز.. رسموا قلعة الجبل وابن طولون والسلطان حسن.. رسموا بوابات القاهرة القديمة.. باب الفتوح وباب النصر وباب زويلة.. دخلوا بيوت المماليك ورسموا ما بها من أثاث وروائع.. رسموا الأسياد والحريم والجواري وفي الحقول درسوا ورسموا النباتات ورسموا الصخور والأسماك والطيور والزواحف وكانت الصور التي رسموها للأهرامات وأبي الهول أول صور يراها العالم لها.. واحتلت الموسيقي الشرقية جزءا من دراسات الفرنسيين في كتاب وصف مصر فوضعوا النوتة الموسيقية لبعض ألحانها, كما رسموا الآلات الموسيقية من عود ومزمار وطبلة.. وعندما اكتشف الضابط بوشار حجر رشيد قام بتسليمه للقائد مينو الذي احتفظ به لمدة عامين في منزله بالإسكندرية وعندما سمع نابليون بالخبر أمر بتسليم الحجر إلي المجمع العلمي المصري الذي وقف أمامه العلماء مكتوفي الأيدي إلي أن جاء فرانسوا شامبليون(1790 1832) فقام بفك الطلاسم ليفتح باب معرفة العالم بمصر وتاريخها القديم.
ويعد الفنان بارون دومينيك فيفان دينون أهم رسامي وصف مصر الذي التقي نابليون في صالون جوزفين دي بوهارنيه في فرنسا, ليصحبه في حملته إلي مصر ليرسم في الإسكندرية السيد محمد كريم, وعمود بومبي, وكنيسة القديسة كاترين, ومسلة كليوباترا, ويذهب مع الجنرال ديزي لملاحقة مراد بك في صعيد مصر, وكثيرا ما كانت المناظر والآثار تستحوذ عليه فلا يبالي باللحاق بالجنود, ولا يحس أحد بغيابه إلا في المساء فيرسلون بقوة تحميه من البدو, وفي هيروموبوليس في مصر الوسطي زار بهو الأعمدة الشهيرة فكتب مفتتنا: إن الإغريق لم يبدعوا أي شيء ذي طابع أكثر جلالا من الفراعنة, وعند دندرة تأكد دينون بأن مصر وليست اليونان هي التي أنجبت أسمي ما لدي البشرية من فنون, فالوحدة والتجانس يحكمان كل شيء.. وكان يرسم آثار الفراعنة بجنون ليقول ليس لدي ما يكفي من الأيادي والعيون, ورأسي أصغر جدا من أن يري, ويرسم, ويصنف كل ما يثيرني, وعندما فرغ ما كان معه من أقلام أخذ يصهر طلقات الرصاص كي يرسم بها تنتارا دندرة التي قال عنها: كنت دائم السقم إلي أن عالجتني تنتارا, ويدور منحني نهر النيل لتظهر الأقصر والكرنك وحدوتة التاريخ ويقول دينون: لقد مس الجميع شعاعا من الرومانسية حتي أن الرجال يتحلقون حولي كي يحموا ظهري من لفح الشمس وأنا أرسم.. وعندما يرسم دينون نقوش حطام معبد إسنا التي تصور المنتجات الطبيعية مثل زهرة اللوتس والكروم والنخيل والبوص مما يبين أن المصريين لم يقتبسوا من أحد في وصولهم بفنهم إلي الكمال.. لقد اقتبسوا من الطبيعة.. وكتب دينون: لم يضف الإغريق سوي القصص الخرافية أو الأساطير إليجانب أعمال اللصوصية التي ارتكبوها في حق المصريين..
وحقيقة باهرة ظهرت في الكتاب يا محمد أن مصر لم تكن هبة النيل كما قال هيرودوت بقدر كونها هبة السواعد المصرية التي جففت الأحراش والمستنقعات, وطهرت مجري النيل, ونظمت دلتاه التي كان لها في الأصل سبعة أفرع, حتي صارت صالحة للزراعة, وقد جاء المؤرخ توينبي من بعد وصف مصر ليؤكد نفس المعني من أن الحضارة المصرية حققت معجزاتها دون أن تتلمس في دربها الطويل علاقات بنوة أو تلمذة علي يد حضارات أخري معاصرة, أو مجاورة لها, إن كان ثمة حضارة أخري هناك.
هذا الكتاب قال لنا يا محمد إن تاريخنا دورات بعضهما قصير والآخر طويل, وفي كل دورة يبدأ الحكم قويا رصينا ناصعا وعادلا, وينتهي إلي الضعف والتعسف والنزاعات التي تؤدي إلي تحلل سياسي, وتآكل حضاري عام حتي تبدأ دورة جديدة تجري علي نفس المنوال.
وصف مصر كشف يا محمد أنه في حكم الأسرة الثالثة عشرة دارت الفوضي في البلاد لتنفجر ثورة شعبية عاتية ويتوالي الملوك الذين بلغوا118 ملكا بمتوسط عام أو ثلاثة أعوام لزمن الملك الواحد, وقد بلغ زمان الحكم أحيانا يومين أو ثلاثة حتي استولي الهكسوس علي مصر..
يا محمد هذا الكتاب روي عن حضارة مصر أنها كانت حضارة أخلاقية متجانسة رغم الحقب السياسية التاريخية عليها, فتجد في صعيد مصر ودلتاه الربوة التي يعلوها معبد فرعوني فكنيسة قديمة يتوجهما المسجد من عل في قصيدة عقائدية متناغمة.
وظهر فيالكتاب يا محمد العلاقة العميقة بين المصري وجميع عناصر الكون بظواهره الطبيعية ومخلوقاته الحية, وقد قدس المصري هذه المخلوقات في أساطيره وآلهته القديمة, فآمون كبير أرباب طيبة يصوره في صورة الكبش, وأنوبيس حارس الموتي يصور في شكل ابن آوي, وأبيس سيد منف هو العجل المقدس, وباست ربة السرور والمرح في شكل قطة, وحورس هو الصقر, وحتحور ربة السماء وسيدة الرقص تصور كبقرة, ورع يرمز له بالجعران, ومعات ربة الحق والعدالة تزدان رأسها بريش النعام..
عندما أحرقت المجمع العلمي يا محمد أحرقت معه كتاب وصف مصر الذي أظهر حرص عدالة الفراعنة علي أن ينسخ القانون في أربعين صفحة بردية ليوضع أمام منضدة القاضي وقت انعقاد الجلسة للمراجعة وزيادة الإيضاح, وكان يسمح لكل شخص أن يقرأ القانون ويستفسر عن الغامض وعندما أحرقت الكتاب, أحرقت كلمات جاءت علي لسان الزعيم مصطفي كامل في يوليو1899: لن ننسي أبدا الجهود الدائمة من جانب العلماء الفرنسيين, لتحريكنا من نومنا طويل الأمد, بل لكي يوقظوا فينا الإرادة والعزيمة للسير قدما, وأيضا لكي ينعشوا في دمائنا ذاتها إذا جاز تعبيري هذا حضارة أسلافنا العريقة, ويأتي عبدالناصر مقرا بأن الحملة الفرنسية كان لها عدة جوانب إيجابية, ومن هنا جاء الميثاق عام1962 ليحدد إن الحملة الفرنسية قدمت دفعة جديدة للطاقة الثورية لدي شعب مصر في تلك الحقبة.
من المعلومات المحترقة يا محمد مع وصف مصر أن مصر زارها عدد كبير من أعلام الفكر اليوناني علي يد الكهنة المصريين, وفيثاغورث الذي وفد من بلدته ساموس إلي مصر مرات ليتلقي العلم علي يد كهنة عين شمس ومنف وطيبة, وديموقريطس الذي قضي خمس سنوات في مصر أخرج فيها نظريته عن نشأة الكون, وقام أفلاطون أيضا بزيارة أرض النيل ليطلع علي أسرار علومها, وعندما قام هيرودوت بزيارة مصر بين عامي(448 445 ق.م) اعترف بأنه لم ير علي وجه الأرض شعبا متدينا كشعب مصر, وأن لسان المصريين عفيف فهم لا يسبون أحدا, ولا يلعنون شيئا, بل يكتفون في لحظات الغضب بالابتهال إلي الآلهة, وشباب مصر يوقرون في إجلال وود الآباء وكبار السن ويفسحون لهم الطريق, وينصتون لحكمتهم ويهمون وقوفا لهم في الأماكن العامة!!
في الكتاب الذي أضعته يا محمد في الحريق نستدل بأن المبالغة في دور علماء الدين ورجاله أو في محاولتهم لصبغ الدولة ونظام الحكم بالطابع الديني كان مرتبطا ارتباطا جليا بالتدهور الذي ألم بالتكوين السياسي والحضاري لمصر في فترات مختلفة من التاريخ القديم, وعلي سبيل المثال فإن انقراض حكم الأسرة الرابعة وراءه أن كهنة رع بعين شمس قد تدخلوا تدريجيا في شئون المملكة منذ وفاة خوفو حتي استولوا علي السدة الملكية, وكان النمو الهائل لنفوذ كهنة آمون في ظل المرحلة الثانية من الإمبراطورية وملك الرعامسة المتأخرين هو ما برر ثورة اخناتون(367 1350 ق.م) علي التحرر من نفوذ سلطة الكهنة من خلال تحريم عبادة الأصنام والدعوة لإله واحد رمز إليه بقرص الشمس واختار لنفسه عاصمة جديدة بعيدا عن دسائس الكهنة ومؤامرات القصر, لكي يحيا حياة الهدوء والبساطة وينعم برؤية طاهرة للعالم, لتكون مصر تبعا لما قاله المؤرخون والفلاسفة فجر الضمير الإنساني..
في مبني الكتاب الذي أحرقت قلوبنا عليهما معا يا محمد أكلت ألسنة النيران أيضا المجموعات النادرة للجريدتين الفرنسيتين اللتين قامت بطباعتهما مطبعة جيش الشرق والمطبعة الأهلية ومقرهما دار عثمان بك الأشقر بالأزبكية علي مقربة من بيت الألفي الذي سكنه نابليون, وكانت اسم الجريدة الأوليcourrierdel'Egypte وطابعها سياسي تصدر بالفرنسية كل أربعة أيام في أربع صفحات من القطع الصغير وصدر منها118 عددا, وجريدةLaDecadeEgyptinne وتصدر مرة كل عشرة أيام تنشر أبحاث المجمع العلمي ومناقشات أعضائه وصدر العدد الأول منها في أكتوبر1798 وكان رئيس تحريرها العالم ديجنت.. وإذا ما كان الأثر الصحفي قد ضاع يا ولدي فقد أخذ معه النسخة الوحيدة لديوان المعلم نقولا التركي الذي جاءت فيه القصيدة اليتيمة التي قيلت في مديح بونابرت:
مقدامها ذو سطوة تهدي الملوك له الوقار
الشهم بونابرته أسد الوغي ذو الاقتدار
من فاق قدرا وارتقي أوج العلا وسما الفخار
مولي شديد البطش من عاداه حل به الدمار
ملك تولي رتبة خضعت له القوم الكبار
قهر الممالك جمة وقضي المراد بما أشار
وضاع أيضا يا محمد ما بين النار وبلل الإطفاء من سوء صنعك معرفة أن بطليموس الأول(323 283 ق.م) كلف العالم ديمتري الفاليري بإنشاء مجمع علمي ومكتبة في الإسكندرية ليغدو بمثابة أكاديمية للعلوم والعلماء ومحبي الفنون والآداب, وزود الملك مكتبة الأكاديمية تلك بلفائف البردي التي نقلت من عين شمس ومنف وطيبة وتحوي جميع فروع المعرفة التي تفتقت عنها عبقرية المصريين, وكانت المكتبة الفريدة تضم إليجانب التراث المصري اللفائف الأصلية لملحمتي الإلياذة والأوديسا وحوارات أفلاطون والنسخ الأصلية بخط اليد من مسرحيات اسخليوس وسوفوكليس ويوريبيدس.. ولأننا يا محمد مصابون منكوبون بك وبأمثالك في مكتباتنا فمن نكد الأقدار أن تحرق زمان مكتبة الإسكندرية بذخائرها.. والآن يحرق المجمع العلمي محراب كتاب وصف مصر علي يد أطفال الشوارع في مصر..
المزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.