في ظل لحظات غياب رهيب للتوافق الوطني, وخلاف عميق بين مكونات المجتمع المدني, وأوضاع باتت ساحات متعددة تتصارع فيها قوي كثيرة من أجل مصالحها الفئوية الضيقة. أصبحت الخطوط العريضة للحملة الانتخابية لمجالس المحافظات في العراق اصبحت اسيرة الأزمة السياسية الراهنة والتي تسجل عودة واضحة للخنادق الطائفية كمعيار للاستقطاب وكسب الاصوات. الانتخابات التي انطلقت اليوم تأتي كأول تحد حقيقي للعراق بعد انسحاب القوات الامريكي من البلاد, وكثير من الجمهور الذي استعد لمراقبة الأحزاب السياسية لايتوقع أي جديد منها, وكان البعض يخشي في الأساسي إجراء انتخابات في موعدها بسبب خلافات سياسية حادة. إنها تحالفات من نوع خاص التي تنتجها انتخابات مجالس المحافظات فالأحزاب الشيعية تتنافس منفردة فيما بينها داخل المدن الشيعية وتتحالف في قائمة واحدة في المناطق السنية, والأمر ذاته ينطبق علي الاحزاب السنية, خمسون ائتلافا تتنافس في الانتخابات هي حصيلة تحالف265 حزبا سياسيا طبقا لوثيقة رسمية صادرة عن المفوضية العليا المستقلة للانتخابات وطبيعة تلك الائتلافات تشير إلي استمرار هيمنة الاحزاب التقليدية الشيعية والسنية علي المشهد الانتخابي ولكن التغيير اللافت هو اختلاف التفاهمات الجارية داخل هذه الاحزاب. خارطة التحالفات المعلنة رسميا تشير إلي أن الاحزاب الشيعية ستتنافس في تسع محافظات سكانها الغالب هم الشيعة وهي واسط, كربلاء, بابل, ميسان, القادسية, النجف, ذي قار, المثني, والبصرة فيما ستتنافس الأحزاب السنية في المحافظات السنية وهي الأنبار, الموصل, ديالي, وصلاح الدين فيما تبقي العاصمة بغداد المختلفة مذهبيا بين الشيعة والسنة ودينيا بين المسلمين والمسيحين وعقائديا بين الدنيين والعلمانيين رقما صعبا في الانتخابات. المحافظات الشيعية تشهد منافسة شرسة بين الثلاثي دولة القانون المجلس الأعلي والتيار الصدري واختار كلا منهم دخول انتخابات مجالس المحافظات بقوائم انتخابية منفردة لكنها في الوقت ذاته عقدت تحالفات مع قوي شيعية صغيرة وفق شروط لصالح الاحزاب الكبيرة, وفي نفس الوقت فإن هذه القوي الشيعية الثلاث تضامنت مع بعضها للدخول في الانتخابات في المحافظات السنية الأربع الموصل والابناء وصلاح الدين وديالي في محاولة للحصول علي عدد من مقاعد مجالس هذه المحافظات المحسومة مسبقا للقوي السنية. وفي مقابل ذلك فإن الاحزاب والقوي السنية المنضوية في ائتلاف برلماني واحد وهي العراقية بزعامة رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي فضلت هي الاخري الدخول منفردة في المحافظات السنية. ويضم ائتلاف العراقية غالبية القوي السنية علي رغم أن زعيمها علاوي شيعي علماني وهذه القوي هي جبهة الحوار الوطني بزعامة صالح المطلق وحركة الحل بزعامة جمال الكربولي, والحزب الاسلامي العراقي بزعامة اسامة النجيفي رئيس البرلمان. أما فيما يتعلق بالأكراد فرغم أن الانتخابات لاتشمل محافظات اقليم كردستان الثلاث اربيل والسليمانية ودهوك إلا أنهم سيشاركون في الانتخابات في المحافظات القريبة من حدود الاقليم وخصوصا محافظتي الموصل وديالي حيث ائتلاف القوي والاحزاب الكردية في قاعة موحدة باسم تحالف التآخي والتعايش وخارج إطار الاحزاب الدينية الشيعية والسنية والأحزاب القومية العربية والكردية. وكانت تجارب الاقتراع السابقة تجري في ظل حد أدني من التوافق السياسي والحضور القوي للأمم المتحدة وتحظي مراكز الاقتراع بحماية من الجيش الامريكي الذي لم يكن قريبا من مراكز الاقتراع لكنه كان عنصر حماية وصمام أمان. هكذا تباينت الوقائع العراقية بأزمتها المفتوحة أمام سلسلة معقدة من القرارات, ويبدو أن الرأي العام في الشارع توصل إلي أن القوي السياسية ليس لديها ماتضيفه في الانتخابات خاصة بعد الاخفاق الذي يراه الكثيرون علي صعيد الخدمات والأمن في الدورتين الانتخابيتين السابقين, لذا لابد من كشوفات معمقة مثلما الحاجة إلي مواجهات وآليات فحص موضوعية لكي تضع صناعة الخطاب السياسي بمستوي صناعة الموقف التي تتناسب والتحديات الخطيرة لاننا لانريد للتاريخ أن يتحول إلي حشود وجماعات وطوائف وحاكميات ومذاهب وعصيان وقسم ومحاصصات تضع قاتلة ومقتولة وتشكل في هذا السياق الحلقات الأكثر خطورة علي تطور الحياة السياسية في البلاد.