إذا كانت خبراتنا السابقة أليمة من حيث العبث بالتفكير الاستراتيجي لتطوير التعليم, فإن هذا ينبغي ألا يصرف أنظارنا عن أضواء يمكن أن نبصرها في النفق المظلم. ففي تربية عين شمس, علي سبيل المثال لا الحصر, جهد علمي راسخ يقوم به كوكبة من أعضاء هيئة التدريس بقيادة أستاذ متميز في التخطيط الاستراتيجي للتعليم هو الدكتور ضياء زاهر, عن طريق دبلوم متخصص في هذا الشأن, فضلا عن مركز علمي مرموق, يسير علي النهج نفسه, تطلب خدماته هيئات ومسئولون في دول عربية مختلفة, لكن, ليس من بينها مسئولو التعليم في مصر! ومن حصيلة دراسات هؤلاء المجاهدين العلميين, ومن سبقهم من الراحلين أمثال الدكتور محمد أحمد الغنام, يمكن أن نرسم فيما يلي بعضا من معالم يمكن أن تضئ الطريق لمن يسعو إلي تطوير التعليم: أصبح مما استقر عليه رأي الجمهرة الكبري من المتخصصين منذ عدة عقود, أن التعليم واحد من مجموعة الحاجات الأساسية لكل فرد في المجتمع مثل حاجته للغذاء والمسكن والخدمات الصحية, وأنه ما لم تتضافر الجهود لسد هذه الحاجات جميعها, في حدودها الدنيا علي الأقل, وبخاصة بين الأفراد الأقل حظا من الناحية الاقتصادية والثقافية, انعكس ذلك سلبا علي التعليم وأضعف من فاعليته. كما أن قدرة التعليم النظامي بمفرده علي إحداث التغيير الاجتماعي والاقتصادي محدودة, وأنه لابد من إدخال القوي الاجتماعية الأخري( الاقتصادية والسياسية والثقافية) عند التخطيط لهذا التغير. أن العوامل البيئية من حول الفرد, خاصة تلك العوامل التي تتعلق بمستوي أسرته الاقتصادي والثقافي, لا تقل أهمية في تشكيله عن فعل التعليم النظامي, وبالتالي فإنه ينبغي تحسين الظروف البيئية للفرد, إذا أردنا أن يكون التعليم النظامي فعالا فيه, وخاصة إذا كانت هذه الظروف متدنية, كما هو الحال الآن مع الأسف الشديد. كما أن التعليم غير النظامي: في البيت, ودور العبادة, والإعلام, ومواقع العمل, والشارع, وتنظيمات الشباب والأحزاب, وغيرها, قطاع مكمل للتعليم النظامي, ومؤثر فيه, وبغير عمل حساب له وتطوير مؤسساته, يكون أي برنامج للتطوير التعليمي متدني الفاعلية. أن التعليم لا يكون استثمارا حقيقيا إلا بقدر عوائده الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية, قياسا إلي ما ينفق عليه من جهد ومال. كما أن التربية المستدامة, التي صارت مطلبا عصريا, ليست بديلا عن التعليم النظامي, وإنما هي إطار له, يراجع نفسه من خلاله, ليصبح أكثر مرونة وانفتاحا واتصالا بالحياة, من حيث محتواه, وتنظيمه, وتتابع مراحله, وشروط القبول, ونظم التقويم فيه. أن تقسيم التعليم النظامي إلي مراحل مسألة تحكمها مطالب المواطنة, فضلا عن مطالب بنية المهن, ومستويات المهارة المجتمعية المطلوبة في البلاد, أكثر من أن تحكمها اعتبارات سيكلوجية( علم نفس النمو), كما أن القيمة الاقتصادية لمحتوي التعليم, ممثلة في تنمية قدرة المتعلم علي الإنتاج وزيادة إنتاجيته بعد تخرجه في سوق العمل ومجال المواطنة, معيار أساسي ينبغي عمل حساب له عند صياغة مناهج التعليم. كما أن تكافؤ الفرص التعليمية ليس مجرد تكافؤ في فرص القبول بالتعليم النظامي,وإنما هي تكافؤ في فرص الاستمرار فيه, والنجاح في التحصيل والإنجاز, وما يعنيه ذلك من مضاعفة الاهتمام بالأطفال الأقل حظا في الظروف الاقتصادية والثقافية, وتعويضهم عن هذه الظروف بفرص تعليمية ورعاية اجتماعية أفضل. إن أي إصلاح للتعليم أو تطوير له لا يكون صحيحا أو فعالا إلا إذا تم في إطار نظرة شاملة له, وإلا إذا نبع من قضايا ملحة, ومواقف حرج أو اختناق فيه, أو في علاقته بالمجتمع, وإلا إذا خضع لتخطيط محكم وبرمجة. وبقدر ما تكون جودة مدخلات التعليم تكون جودة مخرجاته,وهذه المدخلات ليست مجرد موارد مالية- علي أهميتها التي لابد من عمل حسابها- وإنما قد تكون فكرا مبتكرا, أو حلولا ذاتية, أو جهودا شعبية, أو التزاما بقيمة أو مبدأ أو مزيدا من الولاء والإخلاص لمهنة التعليم ورسالته. أن الأنشطة والمؤسسات الاجتماعية والأقتصادية والثقافية والسياسية خارج المؤسسة التعليمية تمثل موارد وفرصا تعليمية ينبغي التعرف عليهاوتحديدها,والاتصال بها للإفادة منها في إثراء التعليم النظامي والإسهام في حل بعض مشكلاته. وهناك العنصر البشري وبخاصة المعلم عامل حاسم ينبغي وضعه في صدارة الاهتمام, وضمان مشاركته والتعويل عليه في كل عملية للتغيير أو التطوير,ومن هنا تأتي أهميةبث الوعي الجماهيري بالتطوير, ومشاركة المعلم في تصميمه, وتخطيطه,وتنفيذه, فضلا عن ربطه بمصالحهم بالفعل. وبغير نظام كفء للمعلومات والبحوث التربوية, لا تستقيم صورة التطوير أو استراتيجيته, أو خطته أو برنامجه. أن إصلاح الإدارة التعليمية شرط أساسي,ومدخل رئيسي لكل إصلاح وتطوير سليم للتعليم. كما أن هذه المعالم, وتلك الركائز تشير إلي ضرورة أن تكون استراتيجية تطوير التعليم, شاملة متعددة الأهداف والأبعاد, فمثل هذه الاستراتيجية تمثل مركبا متوازنا من الاستراتيجيات, وتسوتوعب كافة الرؤي الاستراتيجية, فهي تعني بكم التعليم, وضرورة إيصاله إلي كل فرد بمستوي جودة يتيح له النمو الارتقاء, ويضمن له التسلح بالمعارف والقيم والاتجاهات والمهارات اللازمة لبناء مجتمع مصري متقدم. وهي تعني بتعليم كل فرد, فتعطي الكبير- وبخاصة إذا كان أميا- حقه في التعليم مثل حق الصغير. وتركز في هذه المرحلة بالذات علي قطاعات الفقر في المجتمع,وعلي المجتمعات المستحدثة,وعلي مشروعات التعمير والهجرة والبناء في الصحراوات. وعلي التعليم النظامي, كما تعني بتجويد التعليم وتجديده علي السواء, علي أن يتم كل هذا في توافق وانسجام مع حركة المجتمع, علي طريق الديمقراطية والعدل المجتمعي. لمزيد من مقالات سعيد اسماعيل على