كان ساخرا.. وكان متدينا.. وكان بهاتين الصفتين نموذجا للمصري الصميم.. كان صحفيا.. وكان أديبا, لكنك لاتجد في كتابته من تفاوت, فهو في الحالتين بسيط وبليغ وخفيف الظل.. هذا أحمد بهجت الذي تركنا أول أمس. رحل أحمد بهجت صاحب الأسلوب السهل الممتنع, رحل عنا هذا الكاتب الذي تفوح من كتاباته أريج طيب للجهد الإنساني حين يخلص ويصدق, يعطي ويبذل, ذهب صاحب العمود اليومي بالأهرام صندوق الدنيا الذي كان يبث فيه آراءه ومواقفه ووجهات نظره, والذي لا يتميز بخصائصه اللفظية فحسب, بل بخصائصه المعنوية أيضا, وتلك سمة من سماته تميزت بها كل كتاباته عن مقالات ودراسات وكتب, التي تنكشف لك فيها دخائل من جوهر الحياة, وحقائق من قلب المجتمع, وجوانب من أحوال الناس, بحيث لا يقتصر في كتاباته في هذا الصندوق علي الكلمة الأدبية المحملة بالرأي في الجوانب الثقافية التي يجيدها ويتقنها, وإنما يتجاوزها الي النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. أحمد بهجت في هذه الموضوعات والدراسات والكتب لا يقتحمك في حشد أو كوكبة من النظريات والمفاهيم والمصطلحات, وإنما يستقبلك في دفء ومودة ورضا, تقرأ له فتشعر بأنه يبث فيك كل ما في قلبه من مشاعر طيبة, يسر بها كما يفصح الصديق لصديقه, وكأنه يضع نصب عينيه عبارة مونتين الشهيرة: هذه الكتابة تقوم علي موضوع خاص, وقد وقفتها علي أصدقائي المقربين, حتي إذا افتقدوني وجدوا فيها ملامح من أحوالي وذات نفسي.. وهكذا يتاح لهم أن يحتفظوا بمعلوماتهم عني علي صورة أكمل, وبطريقة أكثر حيوية, ذلك لأن أحمد بهجت حين يسعي الي قارئيه يلغي بينه وبينهم كل الفواصل والحواجز والحدود, ليقدم لهم صورة من ذات نفسه واضحة جلية, لا رتوش فيها ولا تمويه, هي هي كما خلقها الله بكل محاسنها وعيوبها, بكل خيرها وشرها, بكل اتزانها ونزواتها.. وليس معني ذلك أنه كان أقل حكمة من غيره, بل علي العكس كانت نظرته الي الحياة في بعض الأمور المهمة أشد عمقا, وأكثر أصالة.. وهو ما نلمسه خاصة في كتبه الإسلامية. ذلك لأن أحمد بهجت كان خير من يصدق عليه القول, بأن حياة الكاتب الحقيقي هي كتاباته, وغير ذلك يعتبر هوامش لا يعتد بها, فالكثير من سماته وملامحه الشخصية التي يعرفها المقربون منه تستشعرها بين سطور كتاباته, فهو ليس بالكاتب المتجهم الذي يكتب, وكأنه يحمل أعباء الدنيا علي كاهله, ولا هو بالكاتب الذي يتصور أنه الموكل بتثقيف العقول وتهذيبها, كما أنه ليس بالكاتب الذي يفكر دهرا قبل أن يخط لك سطرا, ولا هو بالكاتب المتشائم الذي تسود الدنيا في عينيه, وإنما هو كاتب متفائل مؤمن بما في الإنسان المصري من طاقات وقدرات.. وحتي إن حاول الجد خانته طبيعته السمحة المتفائلة, فألقت عن نفسه مسوح الوعاظ, وطيلسان العلماء, وتكلف أصحاب الجباه العالية, فلا يطيق أن يظل طويلا متسربلا في ألبسة لم تكن له.. إنما هو كاتب فنان صادق يجب أن يكون هو نفسه كما حلقه الله.. إنسانا طبيعيا بسيطا. واذا ما انتقلنا الي جانب آخر من كتاباته, لم يغفله رحمه الله وهو الخاص بالنقد, نجده في كتاباته النقدية يريد أن يضع كلمته النقدية في تيار الأصالة والمعاصرة, محاولا أن يقيم اتساقا بينهما, فهو يريد للقالب النقدي أن يعاصر قراءه, ويعاصر الحياة الجارية, كما يريد لهؤلاء القراء ألا ينفصلوا عن تراثهم العربي, ثم هو يريد لهذا التراث وهؤلاء القراء ألا ينعزلوا عن الثقافة العالمية, ولذلك نراه يقدم انتاجا فيه حيوية الحاضر, وعمق الماضي, فيه رقي العبارة, وبساطة المفردات, فيه استلهام البيئة الاجتماعية الحاضرة, واستجابة للموروثات الماضية, فيه اهتمام بالجديد الواعد, وفي الوقت نفسه اهتمام بالقديم الأصيل. رحم الله الأستاذ أحمد بهجت, لقاء ما قدمه لي ولك وللآخرين من الكلمة الصادقة المخلصة التي ستبقي علي مر الزمن.