ربما لا يكون لشخص رئيس الوزراء كل هذه الأهمية الكبري, التي جعلته موضع صراع هدد بوضع مصر في الأيام الماضية علي أعتاب انقسام خطير, إذا اكتملت الانتخابات التشريعية وأصبح لدي الشعب برلمان منتخب. ومعبر عن إرادته للمرة الأولي منذ أكثر من ستة عقود. فعندما يجتمع هذا البرلمان, الذي زحف الشعب لانتخابه من كل شبر علي أرض مصر سيقف رئيس الوزراء أمامه ليقدم برنامجه. وسيكون في امكان ممثلي الشعب المنتخبين أن يمنحوه وحكومته الثقة أو يحجبوها عنهما. وإذا رأت الأغلبية في البرلمان إعطاء الثقة, لن يكون ذلك بمثابة شيك علي بياض. وإذا وجدت أن أداء الحكومة يغضب قطاعا واسعا من الشعب أو يهدد المصلحة الوطنية, وجب عليها التصدي لها وصولا إلي سحب الثقة منها, لأن هذا واجب علي البرلمان ويمثل امتدادا طبيعيا لوظيفته الرقابية. فالمفترض أن عصر التأييد التلقائي للحكومات في مجلس الشعب انتهي, وأن عهد التصفيق والتهليل لرؤسائها مضي وانقضي. وإذا حدث ذلك فعلا, ورآه الناس بأعينهم عندما يبدأ مجلس الشعب عمله اعتبارا من منتصف يناير القادم في حال اكتمال العملية الانتخابية, سيقل تدريجيا هذا الاهتمام الذي وصل إلي حد الهوس بقضية رئاسة الحكومة. وقد لا يتكرر الصراع الحاد الذي ارتبط باختيار رئيس جديد للوزراء منذ إعلان المجلس الأعلي للقوات المسلحة استقالة د. عصام شرف يوم الثلاثاء22 نوفمبر الماضي. وفي هذه الحالة لن يحدث مجددا اللغط الذي اقترن بشخص رئيس الوزراء وأظهر المدي الذي بلغته حالة عدم الثقة بين أطراف الحياة السياسية في بلادنا. فقبل مفاجأة تكليف د. كمال الجنزوري بتشكيل حكومة جديدة, اتجه الجدل في الساحة السياسية وجهة أخري مختلفة كثيرا عبر تداول أسماء لكل منها سجل طويل في العمل العام والنضال من أجل الحرية ولم يتول أي منهم منصبا وزاريا من قبل ناهيك عن أن يكون رئيسا لحكومة. وبرز بين هذه الأسماء محمد البرادعي الذي ساهم بدور معتبر في التمهيد لثورة25 يناير, وآخرون لكل منهم فضله في التراكم الذي أدي إلي هذه الثورة مثل حمدين صباحي وعبد المنعم أبو الفتوح وحسام عيسي وغيرهم. كانت الأجواء متوترة مشحونة علي نحو جعل الوقت ضاغطا علي رقبة الجميع بالرغم من أنه لم تكن هناك حتمية لاختيار رئيس الوزراء الجديد خلال ساعات قليلة. وفي مثل هذه الأجواء, وفي ظل حالة عدم الثقة السائدة, أثير لغط شديد في الأوساط السياسية والإعلامية حول ترشيح محمد البرادعي لرئاسة الحكومة وموقف الأحزاب والقوي المختلفة تجاهه. وأشيع أن المجلس الأعلي للقوات المسلحة لا يمانع في تكليفه, ولكن أطرافا في الساحة السياسية تعارض ذلك وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين. لم يكن مفهوما أولا كيف يكون لجماعة أو حزب واحد مهما بلغ شأنه حق الفيتو في مسألة اختيار رئيس الوزراء. ولم يكن سهلا معرفة ما إذا كان المجلس الأعلي للقوات المسلحة استطلع آراء أحزاب وجماعات وحركات مختلفة في المرشحين لرئاسة الوزراء, ولا لماذا لم يفعل ذلك عندما اتفق نائب رئيسه وعدد من أعضائه مع رؤساء أحزاب أساسية وبعض المرشحين المحتملين للرئاسة علي قبول استقالة حكومة شرف في اجتماعهم الذي عقد يوم22 نوفمبر الماضي. وقد كان بينهم رئيس حزب الحرية والعدالة الذي أسسه الإخوان المسلمون. كما لم يكن من اليسير استيعاب لماذا يعترض الإخوان علي البرادعي الذي ساندوه بقوة عندما أعلن بيانه للتغيير وأسسوا معه وآخرين الجمعية الوطنية للتغيير. والأكثر من ذلك هو إنه ليس منطقيا أن يتواصل اللغط حول هذا الموضوع بالرغم من إسراع الإخوان وحزب الحرية والعدالة إلي نفي ما أشيع عن اعتراضهما علي تكليف البرادعي برئاسة الحكومة. فقد استمرت وسائل إعلام عدة في ترويج قصة هذا الاعتراض ونسبتها إلي لهو خفي يقال إنه مصادر مطلعة مجهلة كالمعتاد. وما هذه المصادر المجهلة إلا امتداد للمنهج الذي يحجب الحقائق في كل مجال بما في ذلك القضاء كما يحدث الآن في معظم التحقيقات في الجرائم التي ترتكب ضد متظاهرين وتنسب إلي كائنات مجهولة تسمي مندسين أو أيدي خفية ثم طرف ثالث أخيرا قيل إنه اعتدي علي المتظاهرين والشرطة معا. ولم تلتفت وسائل الإعلام هذه إلي ما ورد في غيرها من نفي لتلك القصة بالرغم من أنه نسب إلي مصادر حية ممثلة في بعض قادة جماعة الإخوان وحزبهم. فقد نفي هؤلاء أن يكون لديهم موقف ضد الرادعي. كما أكدوا أن المجلس الأعلي للقوات المسلحة أو غيره من جهات الدولة لم يأخذ رأيهم في هذه المسألة. ولم يكن الأمر في حاجة إلي مثل هذا النفي لأن القصة ليست منطقية ولا معقولة أصلا, وكذلك الحال بالنسبة إلي اقتراح بعض الأطراف أن يصدر الإخوان بيانا لتأييد البرادعي. ففي غياب تكليف رسمي أو مبادرة سياسية محددة, وفي وجود أسماء أخري متداولة( قبل ظهور اسم الجنزوري) يكون صعبا علي أي طرف إصدار بيان تأييد سواء للبرادعي أو غيره لأنه يعني في هذه الحال موقفا ضد آخرين. وكان ممكنا إصدار مثل هذا البيان في حال وجود توافق حتي في ميدان التحرير علي الأقل علي مرشح واحد. ولكن هذا التوافق ظل متعذرا. وبقي اسم البرادعي مطروحا إلي جانب أسماء أخري. ولم يكن إعلان نبأ اللقاء بين المشير حسين طنطاوي وكمال الجنزوري كافيا للإسراع بتحقيق توافق علي البرادعي أو غيره, بالرغم من أن التكليف الرسمي جاء بعد حوالي15 ساعة علي ذلك اللقاء. وعلي أية حال, لم يكن الأمر يستحق كل هذا العناء لأن رئيس الوزراء الجديد لن يستمر سوي سبعة أشهر, وربما تقل إذا لم تقدم حكومته ما يدل علي جديتها أو تبين أنها نسخة أخري من سابقتها. غير أنه إذا كان من درس ينبغي استيعابه, هنا, فهو أن الأحزاب والقوي السياسية وحركات الشباب ستظل عاجزة عن امتلاك زمام المبادرة في صنع مستقبل مصر إلي أن تتمكن من بناء ثقة متبادلة بينها وتستطيع تحقيق حد أدني من التوافق بشأن هذا المستقبل. المزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد