انتهي العمل في الجريدة إلا قليلا ووقفت أطالع صفحات الوفيات ففوجئت بنعي الاستاذ الدكتور فؤاد زكريا. هكذا في صمت يرحل هذا المفكر المستنير. , ودون حتي أن تكلف أسرته نفسها عناء الاتصال بأي جريدة أو اذاعة أو تليفزيون لكي يأخذوا خبرا عن رجل عاش حياته من أجل محاربة الجهل والخرافة والاستبداد وكان يحلم بالحرية وفور التأكد من صدق النبأ, وضعنا له خبرا في الصفحة الأولي. المدهش أن رجلا هذا وزنه يرحل دون أن يشعر به أحد, في حين أن الدنيا من حولنا تقوم ولا تقعد من أجل أناس لا يمكن أن يبلغوا ولو واحدا علي عشرة من قامة هذا الرجل!! (1) من أهم المواقف التي نتذكرها للراحل الكريم موقفه من أسباب النصر الذي حققه المصريون في حرب أكتوبر1973. ففي تلك الأيام الخالدة من تاريخنا خرج علينا إمام جليل من الشيوخ يقول. إن من أسباب هذا الانتصار, أن الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم, جاء في المنام لصديق له يثق به ويصدقه, وبشره بالنصر. وبالطبع لم يتقبل الدكتور فؤاد هذا الكلام فكتب مقالا تفصيليا تم نشره في الأهرام أكد فيه أنه إذا كان المصريون قد حققوا انتصارا في هذه الحرب, فذلك لأنهم امتثلوا لقوله تعالي واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل.. فقد تدربوا جيدا, وأتقنوا استخدام أسلحتهم لأقصي حد. ودرسوا أرض المعركة, بأقصي قدر من العلم حتي إنهم توصلوا لاستخدام خراطيم المياه لهدم الساتر الترابي سور بارليف واختاروا الأيام التي لا تكون قمرية حتي تتمكن القوات من عبور القناة في الظلام واختاروا أن يكون اليوم يوم عيد الغفران الذي يحتفل به الإسرائيليون. وأن يأتي توقيت الهجوم قبل المغرب بساعات قليلة في شهر رمضان, بينما يعتقد الإسرائيليون أن المصريين ينهمكون في هذا الوقت من نهار رمضان, في اعداد طعام الافطار, كل هذا مع أقصي درجة من الانضباط. وقال رحمة الله عليه أنه بسبب هذا العمل العلمي الكفء المدروس بكل عناية, نجح المصريون في تحقيق هدفهم وهو عبور القناة, وقال لقد كان المصريون في1967 يؤمنون بالاسلام ويتخذون من الرسول أماما لهم, وكانوا يفعلون ذلك في عام1973, فلماذا فشلوا في67 ونجحوا في73 ؟ ليس السبب في ذلك أن أحدا قد رأي الرسول صلي الله عليه وسلم في المنام يبشره بالنصر في عام1973 في حين لم يتيسر لنا أن يري أحد منا الرسول صلي الله عليه وسلم في المنام عام1967.. السبب هو العمل والكفاءة والاخلاص في الجهد وإعمال العقل والتفكير في كل صغيرة وكبيرة. (2) في ذلك الوقت أيضا, كان هناك طبيب مشهور ممن تركوا العمل بالطب وانهمكوا في الصحافة أخذ يتحدث عن العلم والإيمان وقد ذاع صيته وتأثر به كثيرون, ولذلك تصدي له في ذلك الوقت بمجموعة مقالات فند فيها ما يذهب إليه صاحبنا. فقال إن صاحبنا في كتاباته مثل الطاهي أمامه ثلاث وجبات واحدة علم والثانية دين والثالثة فلسفة, فلأهل الدين, يعطيهم وجبة مخلوطة من العلم والفلسفة ولأهل العلم يعطيهم الدين والفلسفة ولأهل الفلسفة يعطيهم دينا وعلما, وأضاف أن صاحبنا في كل الأحوال لا يشفي غليل طلابه من أي شيء فهو يكتفي باعطائهم أشباه الحقائق وأنصاف المعلومات دون أن يتمكنوا من أن يدركوا أي شيء علي حقيقته, ولذلك فإنه بما يذهب إليه يتسبب في إصابة الناس بحالة من الترهل العقلي, فلاهم يصبحون بمقدورهم التفكير بشكل ديني خالص, أوعلمي أو فلسفي, بل يظل تفكيرهم يأخذ بقسط من كل شيء دون أن يتمكن من إجادة شيء واحد, وبهذا يخسرون العلم والدين والفلسفة جميعا وقد أطلق الراحل الكريم علي من يذهبون في طريق صاحب العلم والإيمان, بأنهم أشبه مايكونون بالتاجر الذي يبيع مربي خرز البقر للناس فهذا اللون من الطعام تطلبه النساء لكي يصبحن أكثر جمالا, ولكنه ينتهي بهن بأن يصبحن ذوات أجساد تكتنز الدهن واللحم وتصاب السيدات بالترهل البدني, ويفقدن اللياقة البدنية التي تمكنهن من الحركة بخفة ورشاقة وتركبهن الأمراض. (3) للحق, لقد كان الدكتور فؤاد زكريا أستاذا موسوعي المعرفة فهو علي معرفة تامة مثلا باللغات الانجليزية والفرنسية والالمانية والعربية, وكان يأخذ نفسه بالشدة في حياته بحيث لم يكن يسمح لأي شيء بأن يبعده عن متابعة مايجري في العالم من حوله, وكان أيضا من عشاق الموسيقي وله دراسة نال عنها جائزة الدولة التشجيعية عن دور الموسيقي في تربية الذوق وتربية الثقافة. وفوق هذا كله, فقد كان من أشرس خصوم الإرهاب والاستبداد والقهر بكل الأشكال وكان يحلم بالحرية والتعبير الحر سواء في الجامعة استاذا أو في غيرها, فقد كان باستمرار المعلم والاستاذ وحامل الراية من أجل الحرية والتقدم والعلم ضد الخرافة والجهل والاساطير. رحم الله فؤاد زكريا مكافحا من أجل التنوير.