الأمراض كافةً التي تعاني منها أمتنا والبشرية حذرت منها سورة "الحجرات"، داعيةً الجميع إلى التحلي بعدد من الآداب الجميلة في العلاقة مع الله، وبين البشر، إذ تبدأ بالنهي عن رفع الصوت إلا لحاجة، مرورا بالمطالبة بالإصلاح بين المتخاصمين ، ختاماً بالدعوة الشاملة إلى التعارف بين الناس جميعا. تبدأ السورة بالحث على التزام الأدب مع الله. قال تعالى :"يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله"، وتنهى الصحابة عن رفع الصوت في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري: عن ابن أبي مليكة قال: كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفد بني تميم أشار أحدهما بالأقرع بن حابس التميمي الحنظلي أخي بني مجاشع، وأشار الآخر بغيره فقال أبو بكر لعمر: إنما أردت خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك؛ فارتفعت أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت :"يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي" إلى قوله :"عظيم". قال ابن الزبير: فكان عمر بعد إذا حدث النبي صلى الله عليه وسلم بحديث حدثه كأخي السرار (أي الكلام السر) لم يسمعه حتى يستفهمه". أي أن عمر كان يخفض صوته بحيث يحتاج إلى استفهامه عن بعض كلامه. وقيل إن ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه كان جهوري الصوت، وكان من خطباء النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلما نزلت هذه الآية تغيب في بيته، وصار لا يحضر مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، فافتقده الرسول صلى الله عليه وسلم، وسأل عنه؛ فأخبروه بأنه في بيته منذ نزلت الآية، فأرسل إليه رسولاً يسأله فقال إن الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ".(الحجرات:2)، وإنه قد حبط عمله، وإنه من أهل النار، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا به، فحضر، وأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنة، وقال: "أما ترضى أن تعيش حميداً،وتقتل شهيداً، وتدخل الجنة؟ قال: بلى رضيت"..فقُتل رضي الله عنه شهيداً في موقعة اليمامة. هكذا يوجه الإسلام كل ما يصدر عن الإنسان من تعابير وأحاسيس.. في الاتجاه السليم".."أن تحبط أعمالكم، وأنتم لا تشعرون"..أسوأ شئ أن يفقد الإنسان الشعور بإحباط عمله، وضياع ثمرته. في السورة كذلك دعوة قوية للأخوة الإيمانية إذ قال تعالى :"إنما المؤمنون اخوة"..وجاء في الأحاديث الصحيحة -مصداقا لذلك- قول الرسول صلى الله عليه وسلم :"المسلم أخو المسلم"، وقوله :"الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"، وقوله :"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعطفهم كمثل الجسد الواحد"، وقوله :"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا". في السورة أيضا دعوة لتحمل الأذى، إذ كانوا يؤذون النبي، حتى جاء ذلك الأعرابي "المستفز" إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له :"إن حمدي لزين، وإن ذمي لشين"! فنزل قوله تعالى :"إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون". وتدعو السورة للتثبت من خبر الفاسق، إذ قال تعالى :"يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين".. فدين الله هو دين التبين.. وفي سبب التنزيل أن الحارث بن ضرار، جاء وهو زعيم بني المصطلق، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ مسلما، فأرسله جامعا لزكاة قومه، واتفق معه على إرسال رسول من قبله إليه في توقيت معين، فجمع الحارث الزكاة من قومه، وانتظر رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالفعل أرسل إليه الوليد بن عقبة، لكن الوليد أصابه الخوف من الطريق والقوم، فعاد للمدينة سريعا، وقال للرسول :"منعني الحارث الزكاة، وأراد قتلي"..فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم، وأرسل بعثا (جيشا) لمقاتلة الحارث، وبينما الأخير ينتظر مقدم رسول رسول الله، فوجئ بالبعث، فسألهم : لم أتيتم؟ فقالوا :"جئنا لقتالك".. قال: ولم؟ قالوا: "لأن الوليد بن عقبة زعم أنك منعته الزكاة، وأردت قتله". فقال:"والله ما حدث، ولم أره"، وذهب من فوره إلى رسول الله، إذ تبين له الصدق من الكذب، وأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة. قد يثير المرء الفرية الكاذبة والشائعة المغرضة بين مكونات المجتمع فيتسبب في فتنة عظيمة، وهذا ما نلمسه ونراه، عبر التاريخ، في حياة الأمم، وقد حرمه الإسلام..إذ دعانا إلى التيبين والتثبت في الأقوال والأعمال، من أجل نبذ الأكاذيب، والشائعات. وقريب من هذا دعوة الإسلام إلى اجتناب الظن، وهو التهمة والتخوين للغير. قال تعالى :"يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم".. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم :"إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث".. وقال :"إذا ظننت فلا تحقق".. فأي دين يربي قومه وأتباعه على هذا الأدب اللطيف كما يفعل الإسلام؟.. بل دعانا الله تعالى إلى اجتناب كثير من الظن بالرغم من أن الشر يكمن في قليل منه..لأن المجتمعات لا تقوم على أخذ الأمور بالظنون، ولا بالتهيؤات، وإنما بالحقائق، والبينات. ثم تنهانا الآيات القرآنية الكريمة عن السخرية، وأخطر أشكالها: السخرية الجماعية..قال تعالى :"يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم"..فالإسلام يصون الحرمات، ويوقر الحريات، فلا إطلاع على عورة إنسان، ولا تدخل في خصوصياته، إلا بضوابط، ومواثيق..علما بأننا إذا أحصينا ذنوب الأمة في هذا الجانب لوجدنا أكثرها سبا من مسلم لأخيه المسلم، وسوء ظن من مسلم بأخيه المسلم، وسخرية من مسلم بأخيه المسلم..وهنا خص الله تعالى النساء بالنهي -بعد التعميم- بقوله :"ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن"..لأن هذه الآفة ربما تنتشر بمعدلات أكبر بين النساء. هكذا تتناول السورة أخطاء الألسنة والأقوال، كما في قوله تعالى :"ولا تجهروا له بالقول".. "ولا تلمزوا أنفسكم"، واللمز يكون بالمقال، والهمز يكون بالفعل.."ولا تنابزوا بالألقاب"، وهو دعوة الآخرين بأسوأ الألقاب..وكذلك حرم الإسلام الغيبة "ولا يغتب بعضكم بعضا"، ونفّر منها بقوله تعالى :"أيحب أحكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه". فإذا وُجدت خلافات بين المسلمين بعد ذلك فالإسلام يدعو للإصلاح..خاصة عندما يقع قتال بين فئتين داخل المجتمع.ويسمي الله تعالى هنا الباغي والمبغي عليه بالمؤمنين، فلا يمنع عنهم صفة الإيمان.ثم يقول سبحانه :"فأصلحوا"، ويكررها ثلاث مرات في الآيتين. إنها دعوة إلى بذل الجهود بدون هوادة من أجل الإصلاح؛ على جميع المستويات: الأسرة والجيران.. العمل والمجتمع..الأمة والفرد..فهذا حري بإقامة مجتمع متجانس متماسك..متقدم متحاب وواع. [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد