يجب علي الحكومة الرشيدة المدركة للمستقبل القريب والمتوسط وطويل الأجل إعادة النظر بعناية في ترشيد الإنفاق العام والخاص, والنظر أيضا في ترتيب أولويات جدول السلع المدعمة, بحيث تقصر علي السلع الأساسية لجموع المواطنين وليس الأغنياء. واني أؤمن بأنه مازال هناك مجال واسع لترشيد تلك النفقات دون إحداث انخفاض في مستوي أو نوعية الخدمات التي تقدمها الدولة للغالبية المتوسطة والفقيرة من المواطنين. أما بالنسبة للاستهلاك الخاص فيجب أن يؤخذ في الاعتبار ألا تتعدي معدلات الزيادة السنوية للاستهلاك الخاص عن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي. ويقتضي هذا فرض رقابة محكمة علي الزيادة المطردة في استيراد السلع الكمالية والقضاء علي التهرب الواضح من الرسوم الجمركية خاصة عن طريق المناطق الحرة, كما يجب العمل بكل الوسائل علي إعادة زيادة الصادرات من السلع المحلية ذات الميزة النسبية العالمية مع التحفظ بالنسبة لتصدير البترول الخام ومشتقاته. من ناحية أخري لا يخفي أن الحد من معدل الزيادة في الاستهلاك الحكومي سوف يضع حدا للضغوط التضخمية ويحرر الموارد اللازمة لرفع معدلات الادخار, وهو ما يتطلب التخلص تدريجيا من التمويل بالعجز في الموازنة العامة المستمر, أما السياسة التي تنتهجها الحكومة في المجال النقدي وفي مجال سوق الأوراق المالية فأقل ما يقال فيها هو أنها يجب ان تكون محل إعادة نظر شاملة وتخرج عن حدود محاربة ارتفاع الدولار أمام العملة المحلية, ويقوم البنك المركزي بدوره الحقيقي في تطبيق السياسات النقدية الواجبة في الازمات ودفع عجلة النمو بخفض تكلفة الإقراض الانتاجي. نخرج من هذا بأن علي مصر أن تواجه مشكلاتها بشجاعة وحزم, كما واجهت تشوهات النظام السياسي قبل ثورة يناير, ولن يتم إصلاح أحوالنا ما لم نبذل أقصي الجهد في زيادة إنتاجنا القومي من السلع الزراعية والصناعية والعودة السريعة لتنشيط قطاع السياحة بكل انواعه و قطاع التشييد والبناء, ومن ثم يجب جعل مكان الأولوية من أهداف خطتنا هو التوسع الزراعي والتكثيف علي أساس علمي يتفق مع طبيعة العوامل الاجتماعية والسلوكية لأبناء الريف وأن يكون للتوسع الرأسي مكان الصدارة في هذا المجال, علي انه لما كانت الأرض القابلة للزراعة وموارد المياه في انخفاض, ولما كنا لم نستطع لأمد طويل كبح المعدلات العاليةلزيادة السكان التي تلتهم الرقعة الزراعية, فانه يتمثل في التصنيع السريع الزراعي وغير الزراعي الطريقة الرئيسية لزيادة الدخل القومي ولتحسين مستوي المعيشة وتوفير العمالة المنتجة المستوعبة للزيادة المستمرة في إعداد الأشخاص القادرين والراغبين في العمل, ومن هنا تبدو الأهمية البالغة لإصلاح حال القطاعين الزراعي والصناعي اللذين ينبغي أن يبقيا عصب الاقتصاد المصري. إن دفع عجلة التنمية الاقتصادية علي النطاق اللازم لتحقيق ما تقدم ليس بالأمر السهل, ولكنني أعترف بأني لا أري بديلا لذلك وان كانت صراحتي هذه مقلقة للبعض, فأقول: رحم الله أستاذي العظيم المرحوم الأستاذ الدكتور زكي الشافعي مؤسس كلية الاقتصاد والعلوم السياسية عندما كان يدأب علي استهلاك محاضراته في تدريس الاقتصاد بقوله: إن الصدق سواء في قاعة الدرس أم في إسداء النصح للدولة التزام مهني علي كل من يتصدي للتخصص في ميدان عمله. وعلي الإطار الديمقراطي السليم أن يتسع لحقيقة التطور الاقتصادي في العالم الحديث الذي أسقط وبلا عودة فكرة الدولة المسيطرة وأقام الدولة المسئولة عن حماية المجتمع وتحقيق التوازن الاقتصادي الذي يضمن العدالة الاجتماعية ودفع التنمية الاقتصادية, مع الحفاظ علي القوي الاجتماعية الجديدة الشباب, فمهما تكثر أقنعة المسرح فإنها يمكن أن تخفي بعض الوجوه, ولكنها لا تغني أبدا إمكانية عودة الماضي واستمرار سلبيات الحاضر. ويجب علي الإطار الديمقراطي بعد ثورة يناير أن يسمح لكل الأحزاب والحركات السياسية أن تؤدي مهمتها الوطنية في القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي, لأن جماهير الشعب اليوم بما تتمتع به من وعي وثقافة ثورية, تؤهلها إلي أن تؤدي دورها في التمثيل في المجالس النيابية والمحليات لأن الحكم يجب أن يكون في يد الأغلبية الحقيقية من أبناء هذا البلد. ويلزم علي الإطار الديمقراطي الواعي دعم ذلك من خلال اتجاهين: أولهما: زرع مجتمع المنتجين ورفع مستوي معيشة الطبقات الكادحة من حد الكفاف إلي حد الكفاية, والذي كنت قد أشرت إليه في مقال سابق. ثانيهما: دعم الأسس الدستورية والقانونية التي ترسخ قواعد الحريات وإتاحة الفرصة كاملة دون قيود لقيام معارضة حقيقية تلتزم بمكاسب الثورة وبالوحدة وبفلسفة التحالف السلمي من خلال عقد اجتماعي واضح. تلك المبادئ ولا يجب أن نتخلي عنها في مرحلة بناء مصر بعد الثورة وقيام دولة المؤسسات المنشودة, فقيام الدولة المسئولة في ظل ظروف موضوعية سوف يسمح بتحقيق التوازن لنظام تحكمه أغلبية قوية وتشاركه معارضة وطنية, يشتمل علي ممارسة للديمقراطية انضج وأعمق مما سبق, تضمن للجماهير المشاركة الفعلية في اتخاذ القرارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي ترسم مستقبل مصر الجديد, كما تضمن أيضا سلمية انتقال السلطة عن طرق الممارسة الديمقراطية الرشيدة. هذا هو الذي سوف يأذن للمستقبل الذي قامت من أجل الثورة أن تولد علي يديه ولادة طبيعية, مصر العيش مصر الحرية مصر الكرامة مصر العدالة الاجتماعية, إن فلسفة الاقتصاد السياسي الذي غاب عن مصر أكثر من عشرين عاما قد حان الوقت لكي نستدعيه مره اخري, مصر في أشد الحاجة الي تلك الفلسفة المزدوجة التي تري الخطه الاقتصادية العلمية ولاتغفل الاثر السياسي والاجتماعي علي المواطنين.