الدبلوماسية الأمريكية في ولاية الرئيس باراك أوباما الثانية غيرت استراتيجيتها ومسارها ومسئولها. جون كيري وزير الخارجية الأمريكية الجديد قرر بعد ثلاثة أسابيع من توليه منصبه أن يغير سياسة المحور التي اتبعتها هيلاري كلينتون خلال السنوات الأربع الماضية. كيري, علي عكس كلينتون, قرر أن تكون جولته الخارجية الأولي إلي الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة في أوروبا والشرق الأوسط وليس آسيا كما فعلت وزيرة الخارجية السابقة. السيناتور السابق بمجلس الشيوخ قرر أن يخصص11 يوما يزور فيها عواصم9 دول أوروبية وعربية للقيام ب جولة استماع إلي الحلفاء القدامي في لندنوبرلين وباريس وروما وأنقرة والقاهرةوالرياضوأبوظبي والدوحة. زيارة السياسي المخضرم لأوروبا تحمل في طياتها جزءا من ميوله السياسية فهو من أبرز دعاة توطيد العلاقات الأمريكية الأوروبية. كيري يبدأ جولته الماراثونية وهو يحمل أهم قضية في جعبته الملف الأكثر سخونة وهي ثورات الربيع العربي وخاصة ثورة سوريا والتحدي الذي يشكله المتطرفون الساعون إلي خطف بعض الثورات العربية. يخطط رأس الدبلوماسية الأمريكية لاستغلال جولته الخارجية الأولي لتطوير أفكار جديدة حول كيفية إقناع الرئيس السوري بشار الأسد بالتنازل عن السلطة ودفعه لتغيير حساباته وإنهاء الحرب الأهلية في بلاده. كيري لم يفصح عن أفكاره الجديدة ولا كيفية تطبيقها, لكنه يحاول البحث عن إيجاد أرضية مشتركة خاصة مع الروس لإنهاء المأزق السوري. القضية المحورية الأخري التي تشغل بال الولاياتالمتحدة هي' منطقة التجارة الحرة الضخمة' مع أوروبا التي أعلن عنها أوباما في خطاب حالة الاتحاد. إلي جانب الملف السوري والعلاقات الثنائية مع الدول التسع, حاول كيري خلال جولته التي بدأت الأحد الماضي مراعاة القضايا الداخلية التي تشغل بال كل دولة زارها علي حدة, ففي بريطانيا كانت جزر الفوكلاند المتنازع عليها جزءا أساسيا من المحادثات. وبحث في برلين المنطقة الحرة الأمريكية- الأوروبية كما التقي وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف لتبادل وجهات النظر حول عدد من القضايا العالقة. وفي باريس يناقش كيري المساعدة الأمريكية للعمليات العسكرية التي تقودها فرنسا في مالي. كما شارك في روما في مؤتمر أصدقاء سوريا, وسيلتقي مع قيادة التحالف الوطني السوري المعارض. وفي القاهرة, يتناول كيري تداعيات المشهد السياسي المصري داعيا إلي تحقيق قدر أكبر من التوافق السياسي والمضي قدما في الإصلاحات الاقتصادية. وسيختتم وزير الخارجية الأمريكي في الخليج حيث يشارك في اجتماع لوزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي في الرياض وسيكون علي أجندة محادثاته في أبوظبي والدوحة والرياض الملفات السورية والإيرانية والأفغانية. وبمجرد إعلان الخارجية الأمريكية عن جدول الزيارة وأهدافها سارع الشركاء الأوروبيون إلي الترحيب بعودة الحليف الأمريكي إلي القارة العجوز, واعتبروا الزيارة إشارة ذات دلالة علي أن العلاقات عبر الأطلنطي قوية, وهذا ما عبر عنه بوضوح جيدو فيسترفيله وزير الخارجية الألماني قائلا إن هذا' يبين عدم صواب من اعتقدوا أن أوروبا لم تعد مهمة للولايات المتحدة'. فيسترفيله اعترف أن إقامة منطقة حرة بين أمريكا وأوروبا علي جدول الأعمال السياسي لزيارة كيري, وأن المفاوضات ستبدأ الصيف المقبل, وأن المحادثات ستواجه قضايا صعبة بداية من قطاع الزراعة حتي المعايير التقنية. كيري متحمس لتحقيق نجاح في مهمته لكن سياساته ورؤاه تصطدم مباشرة بسياسات أوباما وهو ما يثير الشكوك حول إمكانية تحقيق طفرة في السياسات الأمريكية في العالم. كيري يدرك جيدا أهمية مهام وطموحات أمريكا في ما وراء البحار عبر القوة الناعمة وليس الحروب.' استخدام الدبلوماسيين اليوم أرخص كثيرا من نشر القوات غدا', هكذا شدد كيري في كلمته التي ألقاها في جامعة فرجينيا التي أسسها توماس جيفرسون أول وزير خارجية أمريكي. كيري رفض خفض الإنفاق في مجال الشئون الخارجية واعتبرها حصن أمان للأمن القومي الأمريكي وخفضها يعني إضعاف الدبلوماسية الأمريكية وعامل مساعد لانحسار الدور الأمريكي في العالم قد يشجع علي أن تصبح الدول الفاشلة قواعد لهجمات علي الولاياتالمتحدة. كيري أرسل إشارات واضحة حول قيادته إدارة حازمة واستباقية وأكثر مخاطرة لسياسة أمريكا الخارجية عن تلك التي اتبعتها هيلاري. كيري ينظر إلي وظيفته علي أنها قمة عمله السياسي علي مدار40 عاما ويطمح إلي لعب دور أكثر مركزية في إدارة أوباما من الذي لعبته كلينتون التي مارست دبلوماسية ما يعرف ب الأميال الطويلة والتركيز علي السفر لدعم علاقات أمريكا بالخارج. أوباما لم يدع مجالا لهيمنة كلينتون علي الدبلوماسية الأمريكية فهو الرئيس الأكثر استبدادا فيما يتعلق بالسياسة الخارجية منذ ريتشارد نيكسون. لكن كيري يرغب في لعب دور له مغزي. لكن هذا الدور له حدود, فالسياسة الخارجية تصنع في البيت الأبيض, ولذلك فأن حظوظ كيري لن تختلف عن حظوظ هيلاري رغم خبرته السياسية الطويلة جدا في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ, إلا أنه من المؤكد أنه سيعلن في الأغلب قرارات ولن يصنعها.