طوال عدة عقود من الزمن, والإنسان لا يكل ولا يمل ويبذل كل جهده وطاقته وماله من أجل فهم قوانين الطبيعة والكون, وخلال هذه الرحلة ظلت بعض الأسئلة حائرة تبحث عن إجابة: كيف بدأ الكون؟ من أي شيء خلق؟ وما الذي يمسك الكواكب والمجرات ببعضها البعض؟ كيف نشأت المادة؟ ما طبيعة المادة المعتمة؟ ما العلاقة بين المكان والزمان؟ ما طبيعة المادة الأولية التي نشأت في الكون بعد الانفجار العظيم؟ وفي المحاولة للإجابة علي هذه الأسئلة تم إنشاء المصادم الهدروني الكبير في المختبر الأوروبي لفيزياء الجسيمات( سيرن) ليصبح واحدا من أعقد وأعظم الأدوات العلمية التي بناها الإنسان في التاريخ وأعلاها تكلفة. بفضل تجارب هذا المصادم نجح العلماء في يوليو2012 في اكتشاف جسيم يشبه جسيم هيجز بوزن الذي تنبأ به العالم بيتر هيجز عام1964, وأطلقوا عليه اسم' جسيم هيجز بوزون' وأهمية هذا الجسيم تنبع من كونه جزءا من الإجابة علي أسئلة علمية مهمة مثل كيف بدأ الكون. وكيف تطور إلي شكله الحالي؟, ويساعد علي وضع نظرية فيزيائية موحدة للكون, فهو آخر جزء ناقص في النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات, علما بأن هذا الاكتشاف جعل العلماء يعيدون محاكاة أجزاء ضئيلة للغاية من أول ثانية في عمر الكون بعد الانفجار العظيم!! جاء ذلك في المحاضرة التي ألقاها البروفيسور ألبرت دي روك بالجامعة البريطانية بالقاهرة, وهو عالم أبحاث بارز وأستاذ فيزياء الجسيمات في العديد من الجامعات الأوروبية وقائد فريق العلماء الذين أجروا تجارب اصطدام أشعة البروتونات المنطلقة بسرعة الضوء, والتي أدت إلي نشأة جسيم هيجز بوزون الذي اعتبر نقطة تحول في علم فيزياء الجسيمات, وقد شاركت مصر في هذه التجارب بعلماء وباحثين من8 مؤسسات وجامعات. يقول ألبرت دي روك إن هذه التجارب تقوم علي استخدام شعاعين من البروتونات عالية الطاقة التي تنطلق بسرعة الضوء وتصطدم ببعضها البعض بمعدل مليار تصادم خلال الثانية الواحدة وتولد في حيز ضئيل للغاية درجات حرارة أعلي مليون مرة من درجة الحرارة في قلب الشمس, وقد تطلبت هذه التجارب أجهزة وآلات علي أعلي مستوي تقني من التعقيد والتطور, مثل آلات تسريع البروتونات وتزويدها بطاقة عالية والمجسات وأجهزة الرصد التي ترصد الجزيئات الناتجة المتطايرة من نقطة التصادم, وأجهزة الحاسبات تحلل الكمية الضخمة من البيانات التي تنتجها أجهزة الرصد وآلاف العلماء والمهندسين والفنيين والتقنيين الذين يصممون ويشغلون كل هذه الآلات. وحول مساهمة العلماء والباحثين المصريين في تجارب مصادم هدرون الكبير يقول الدكتور عمرو راضي مدير الشبكة المصرية للفيزياء عالية الطاقة إن التعاون مع سيرن مثمر بشكل كبير, فخلال زيارة الدكتور دي روك تم توقيع اتفاقية تعاون سيعود بمقتضاها لمصر خلال شهري أكتوبر ونوفمبر المقبلين لإلقاء6 محاضرات' مجانية' للطلبة والباحثين المصريين حول مصادم الهدرون الكبير والمجسات وآليات التجارب المعقدة التي تجري من خلاله وكيفية رصد وتحليل النتائج التي تسهم في كشف سر الكون. الي جانب ذلك, فإن العلماء المصريين يشتركون ضمن منظومة عالمية تضم3600 عالم من39 دولة حول العالم في صنع هذه الثورة العلمية التي تسهم في إعادة فهم الكون وتحدد مستقبل الفيزياء النظرية. ولأن رصد التجارب العلمية يعتمد علي المجسات, فإننا نشارك في أكثر من مرحلة وأكثر من مشروع في المصادم أبرزها صنع أجزاء من المجسات وآلات الرصد وإجراء الاختبارات والترقية كما نساهم في تحليل البيانات الناتجة وأداء التجارب'. ويضيف الدكتور راضي:' يصل عدد الباحثين المصريين الذين يشاركون في تحليل بيانات التجارب العلمية في سيرن إلي45 باحثا من15 جامعة ومركزا بحثيا, وذلك تحت مظلة أكاديمية البحث العلمي. هذه المشاركة تنعكس إيجابيا علي تطور البحث العلمي في مصر, لأن مصادم هدرون يمثل أعلي تقنية في العالم في مجال الفيزياء, وقد حصلنا علي حق العضوية حتي يمكننا نقل جزء من هذه التقنية لأن كل جزء وكل آلة وكل مكون من مكونات المصادم يمثل أعلي مستوي في التقنية والتطور العلمي. ومن الجدير بالذكر, أن هناك تطبيقات عديدة لتصادم البروتونات في المجال الطبي, حيث يستخدم شعاع البروتونات في القضاء علي الخلايا السرطانية بفاعلية أفضل بكثير من العلاجات الإشعاعية التقليدية.