أنيس منصور.. هذا الكاتب الفذ الذي فقدناه, سمعت به قبل أن أقرأ عنه, وقرأت عنه قبل أن أتحدث معه. لكن مع ذلك كان من المتعذر علي وقتئذ رسم صورة له دقيقة الملامح, محددة القسمات.. فالرجل حين تستوعب آراءه وأفكاره, تتمثل لك علي الفور صورة تمام الوضوح, محددة تمام التحديد بأنه فكرة أكثر منه جسدا, وعقل أكثر منه مادة, وقوة تحس أكثر منه خلقا يلمس. ومن الصعب والأمر كذلك أن يجد المرء كاتبا في العالم العربي أغزر إنتاجا, وأعمق فكرا, وأبسط أسلوبا, وأوسع انتشارا مثل أنيس منصور الذي يعتبر في مقدمة مفكري وكتاب هذا العالم, وأكثرهم اطلاعا علي الجديد, واستمرارا علي الانتاج, ومتابعة لكل جوانب المعرفة قديمها وحديثها, عربية كانت أو أجنبية حتي يمكن القول بإنه ليس هناك سؤال ليس له إجابة عنده, وكأنه دائرة معارف متحركة تمد من يريد بالمعلومات. هذه النزعة الموسوعية لدي أنيس منصور تبدو من تصانيف إنتاجه الفكري وهو إنتاج قد يصعب علي غيره من الكتاب المعاصرين خاصة إذا كان صاحبه ملتزما بتقديم مادة يومية في صورة أعمدة صحفية في أكثر من صحيفة يومية, أو مواد أسبوعية وشهرية في صورة مقالات ودراسات في مجلات ودوريات بمصر والعالم العربي, وأحاديث مقروءة وأخري مسموعة وثالثة مرئية. ولعل هذا الانتاج الغزير يرجع في أساسه إلي انصراف أنيس منصور منذ تخرجه عام 1947 إلي الثقافة بمفهومها الواسع, فلم يقصر كل اهتمامه علي الجانب العلمي الذي تخصص فيه وهو الفلسفة, وإنما تجاوزه إلي جوانب أخري منها الصحافة والأدب والسياسة.. تلك التي أعطته الكثير.. فأعطته الصحافة كل ما يتمناه مشتغل بها, حيث أسندت اليه اكبر مناصبها إلي جانب كونه كاتبا متميزا, وأعطاه الأدب كل ما يحلم به كل أديب عن التقدير المعنوي الذي تمثله الجوائز والأوسمة مع حصوله علي لقب كاتب المقال الأول في استطلاعات كثيرة, وأعطته الكتابات السياسية تقديرا آخر حيث اعتبر بمثابة السفير الثقافي لمصر في الأوساط والمنتديات العالمية لما يتمتع به من ثقافة واسعة وإتقان لأكثر من لغة أجنبية, كما أعطته الفلسفة كل ما يريده دارسها فقد عمل مدرسا بالجامعة, والأهم من ذلك أعطته كل الأعماق والآفاق بالطبع الي جانب المنهج الذي يستطيع به النفاذ والتحليل والتأويل والاستيعاب أو باختصار أعطته أسلوبا متفردا به يعرفه قراؤه حتي لو لم يوقعه باسمه. هذا الاسلوب خاص به وحده, وهو أسلوب السهل الممتنع, فالقارئ له يدرك أن هذا الاسلوب يتسم بسهولة المأخذ, وتلقائية المظهر فيخيل لك أنك لست ببالغ منه أي غرض, ولكنك حيث تتابع القراءة مشدودا بسحر الحديث, تتكشف لك دخائل من جوهر الحياة, وحقائق من قلب المجتمع بسطت في كلمات وجمل بلا تعقيد أو غموض, يضاف إلي ذلك كون صاحب هذا الاسلوب يكتب لعامة الناس في الصحافة, لهذا تجده يطوع اللهجة العامية للتعبير الفصيح, ففيما يجري به قلمه تنساب الكلمة الفصيحة المختارة, مع الكلمة العامية التي تجري بها الألسنة في نسق جميل تحسبه هينا ميسورا, لكنه عند الممارسة تقصر دونه همم كبار الكتاب. ولعل ذلك كله يرجع إلي أن الفكرة عند أنيس منصور مهما تكن عميقة لا تتعين أن تكون ملفوفة في رداء من الغموض, أو حشدا من الكلمات الصعبة يحجبها عن أذهان القراء, وأن دقة التفكير عنده لاتتعارض مع رهافة الحس وعمق الشعور. لذلك تجده بسيطا في تناوله للموضوعات. حتي إنه حين يكتب في الفلسفة لاتختلف بساطته حين يكتب في الرياضة, أو حين يكتب عن أخطر القضايا السياسية لايختلف في هذه البساطة حين يكتب عن الأزياء, إلي درجة أن البعض الذي لم يدرك أسرار أسلوبه يصف هذا الاسلوب بأنه شبيه بالصدمات الكهربائية. ذلك أن البساطة عند أنيس منصور مطلب أساسي في الكتابة, ولا تحسبن هذه البساطة أمرا سهلا أو ميسورا, إنما هي جد من الأمور الصعبة الشاقة, المركبة, مثلها كمثل بساطة الضوء الأبيض الشفاف, الذي يبدو للناظرين بسيطا شفافا, لكنه مع ذلك هو مركب من سبعة الوان هي الوان الطيف المعروفة, فهكذا نجد كتابات أنيس منصور ظاهرها البساطة والسهولة, وباطنها العمق والشمول. المزيد من مقالات سامح كريم