منذ عشرة شهور تقريبا, وعلي أرض مطار اتاتورك الدولي باسطنبول, بدأ هناك مشهد درامي, فبحكم كونه رئيسا سابقا للجمهورية, وقفت سيارة خاصة عند مهبط الطائرة العادية القادمة من انقرة, تنتظر نزول الرئيس الاسبق التاسع حسب توصيف الادبيات السيارة بالاناضول سليمان ديميريل. هنا لعبت الصدفة وحدها دورها التراجيدي في ان يري الاخير صديقه الاستاذ الدكتور محمد هبرال رئيس جامعة باش كانت أشهر جامعات العاصمة, وواحدة من الصروح العلمية الكبيرة التي يشار لها بالبنان, محاطا برجال الشرطة دون ان يدري انه كان في نفس الطائرة, هنا اسرع ديميريل نحو الرجل قبل ان يصعد سيارة الترحيلات متجها إلي سراي النيابة, وقد مد له يده مصافحا اياه بشدة, ومؤازرا له في كلمات هامسة وكان المعني واضحا انها ضريبة من يدافع عن العلمانية ياعزيزي!! كان هذا ما عرف آنذاك بالزلزال الاكاديمي علي حد وصف حريت كبري الصحف التركية, وطال اساتذة كبارا في الجامعات بتهمة الاشتراك في الانقلاب ضد حزب العدالة والتنمية الحاكم والتي صارت تعرف باسم الارجينكون, لكن الصدفة التي بدت غريبة ومثيرة, هي ان اسماء من طالهم الاعتقال وهم مصطفي يورت كوران الاستاذ بجامعة يوليداغ, وفاتح حلمي اوغلو الاستاذ بجامعة اينونو, وفريد بيرناي الاستاذ بجامعة19 مايو, وعثمان متين أوزتورك جامعة جيرسن, وتوركان سايلان الاستاذة غير المتفرغة ورئيسة احدي المؤسسات الخيرية والتي كانت تعيش ايامها الأخير في صراعها اليائس مع مرضها العضال, فقد لاقت ربها بعد ايام قليلة من تلك الواقعة, كانوا جميعا حجر عثرة امام زحف الحكومة علي مؤسسات التعليم العالي بدءا من عرقلتهم مسألة الحجاب إلي ان نجحوا في نيل حكم من الدستورية العليا يؤيد موقفهم, انتهاء برفضهم دخول خريجي امام خطيب الكليات والمعاهد الجامعية غير الدينية بقي من تلك المجموعة امس السيدة تيجان ميرجن مستشارة ايدن دوغان الاعلامي البارز وصاحب أكبر الصحف اليومية فضلا عن قنوات مرئية مشهورة, والاخير له حكاية يطول شرحها, والدليل علي ذلك انها كانت مثار تعليق غاضب من المفوضية الأوروبية التي اعتبرت في ديسمبر العام المنصرم ان الغرامة الضخمة75 مليار يورو التي فرضتها حكومة العدالة والتنمية علي مجموعة دوغان الاعلامية بتهمة التهرب من الضرائب تشكل تعديا فادحا علي حرية الصحافة, مما يتنافي مع الحاح انقرة للانضمام إلي الاتحاد الأوروبي. وهنا يكمن مغزي شديد الدلالة, فعاصمة الاتحاد بروكسيل ادركت ان القضية تتجاوز حقوق دولة مهدرة ولابد من استرجاعها, فدوغان ومجموعته ونظرا لكونهما مستقلين فطبيعي الا يكونا علي وفاق مع رجب طيب اردوغان الذي لايكن اي ود لهما بل انه لم يخف عداءه تجاههما طالبا صراحة ذات مرة من مواطنيه ان يحجموا عن قراءة الصحف المسمومة او ان يشاهدوا قنوات دوغان الفضائية المغرضة. ومرت الاسابيع ليستيقظ العباد علي زلزال اخر هز النظام القضائي ومازالت تداعياته مستمرة حتي اللحظة الآنية, فالمدعي العام الجمهوري لمدينة ارزينجان الساكنة في الشمال الشرقي من هضبة الاناضول ايلهان جيهان ار والمفترض انه هو الذي يصدر اوامره لقوات الشرطة بالقبض علي المخالفين يفاجأ انه نفسه, وبناء علي تعليمات من عثمان شنال المدعي الجمهوري لمدينة ارضروم القريبة من مدينته, مطلوب القبض عليه, وقبل ان يصحبه الأمن كان عليه ان يشاهد تفتيشا دقيقا لمكتبه, ورغم ذهول مرءوسيه إلا انه ظهر رابط الجأش وهو يستمع إلي جملة من التهم التي وجهت إليه والتي تمثلت في الانخراط بصفوف المنظمة الإرهابية ارجينكون, والاحتيال والتزوير. وقبل ان يبادر بالنفي كانت التلفزة بتحليلاتها قد سبقته واكدت ان المنسوب له غير حقيقي, وسردت الشبكة التليفزيونية ان.تي.في الاخبارية معلومات ازاحت الستار عما هو غير معلن مؤداها ان ايلهان سبق واعد عام2007 ملفا عن مجموعة أشخاص ثبت انتماؤهم لجماعة اسماعيل اغا الدينية المتطرفة المحظورة, والتي اتخذت من ارزينجان مركزا لها, وفي الملف نفسه وثائق كشفت عن وجود اتباع لها بمدن عديدة بوسط وشمال شرق البلاد, وبعد التحريات والتحقيقات التي اجريت خلال تلك الفترة تم اعتقال36 شخصا من تلك الجماعة, بالاضافة إلي القبض علي69 آخرين من مجموعة الشيخ فتح الله غولن رجل الأعمال الشهير والمقيم باختياره منذ سنوات في الولاياتالمتحدةالأمريكية, وهذا هو بيت القصيد, وعلي الفور صدرت الاوامر من انقرة بتقليص صلاحيات المدعي العام جيهان ار ونقلها إلي المدعي الجمهوري لمدينة ارضروم الذي قام من فوره باطلاق سراح جميع المعتقلين اما الاتهامات التي وجهت بحقهم فقد ذهبت ادراج الرياح! ولان ماحدث اثار هلع الرأي العام, فلابد من الاسراع بحزمة من التعديلات علي الدستور الحالي تستهدف اعادة هيكلة السلطة القضائية, ونزع بعض من صلاحياتها لتنتقل إلي وزارة العدل, وهو ما اعتبرته المعارضة هيمنة وليس اصلاحا لمواكبة معايير الاتحاد الأوروبي, ورغم ان العدالة يفترض انه مدين للمحكمة الدستورية العليا كونها حالت دون اغلاقه, إلا ان الاخيرة سينالها تعديل يؤسس بنية مغايرة لها, هدفها الظاهر تصعيب اغلاق اي حزب سياسي إلا ان الحقيقة وطبقا لما ذهب إليه متخصصون ستفقد استقلاليتها لتصبح اكثر تبعية للسلطة التنفيذية, فأين هو إذن دولة القانون؟