قدمت لنا الأسطورة القديمة أنماطا إنسانية حية لا تموت, لقدرتها اللانهائية في التعبير عن الضمير الإنساني, والأفكار الكامنة في اللاشعور الجمعي للبشر, في مختلف الأماكن والأزمنة, فهي كشكل من أشكال الحياة, تعكس صورة معينة وجاهزة للثقافة العامة. وتلخص ملامح وتعقيدات العقل العام, ودرجة التطور الحضاري, ذلك بالإضافة إلي أهميتها في رسم صورة للصراعات النفسية الداخلية, حتي إن العالم الكبير سيجموند فرويد إعتمد عليها لفك طلاسم الصراعات النفسية للمرضي النفسيين, لاعتقاده بوجود تماثل ما بين معاناتهم, وبين الحياة البدائية من حيث الميول والرغبات, ولعل أشهر نمط إنساني للتعبير عن المرض النفسي هو بلاشك عقدة أوديب. نمط أوديب لا يمثل فقط كما هو شائع مرض التعلق بالأم, ولكنه من أهم الأمثلة الإنسانية التي عبرت عن البشرية عامة في كفاحها, وأيضا ذنوبها, وأعتقد أن هذا النمط أفضل ما يعبر عن حالة المجتمع العربي في العصر الحديث, حكاما ومحكومين, فأوديب أكبر خطأ إرتكبه, هو الغرور والكبرياء غير المحمود, والثقة الزائدة بالنفس, جعله يترفع عن النقد الذاتي, ففي معرض بحثه عن أس المشكلات, وسبب البلاء, وجده في نفسه, وأعتقد أن المشكلة التي عانينا ونعاني منها في ثقافتنا العامة هي الغرور, الذي يجعل من رؤية كل طرف هي الحقيقة المطلقة, أو الصواب المحتوم, ومن يختلف عن هذه الرؤية, فهو عدو.. (خبط لزق), حتي الذين يدعون أنهم يقبلون الرأي الآخر, وأن إعتقاداتهم اليقينية, ما هي إلا إجتهاد, يخضع لقدراتهم الفكرية والعلمية, وتحكمه ضوابط عقلية ومنطقية من ثمرة الحوار مع الآخرين أصحاب الرؤي المختلفة, إلا أنهم يفشلون عند أول اختبار واقعي, فظهرت تيارات دينية تخطف الدين, بإدعاء تمثيلها للدين الصحيح, وتيارات وطنية تخطف الوطن, باعتبارها هي الأمينة علي مصالحه, وتحقق طموحات الناس, وتحترم مبادئها, وتيارات جديدة تعتبر نفسها الأحق في التعبير عن الثورة, وأن لها أن تأمر فتطاع, وأن الرؤي المعارضة لها هي خارجة عن قيم ومباديء الثورة, وبجرأة منكرة يتم خطف الثورة, خطف الدين والوطن والثورة ثمرة مسمومة للأنانية والغرور! قليل من التواضع, ربما كان قد وفر علينا مآسي عنيفة, قليل من التواضع كان يمكن أن يمنع اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات الذي ندموا عليه الآن, أو اغتيال أحمد شاه مسعود أو برهان الدين رباني والقادة الإسلاميين المشهود لهم بالتقي والورع والجهاد الحقيقي في سبيل الله, وراحوا ضحية الجهل الأوديبي, الذي أعطي لنفسه الحق في أن ما يقتنع به هو الحقيقة, ومن علي غيرها ففي ضلال مبين, ويستحق القتل, ولا أعلم كيف ينتمي هؤلاء القتلة لنبي الإسلام صلي الله عليه وسلم الذي كان يري أن هدم الكعبة أهون من إراقة دم مؤمن!. ومن وعاء الغرور نفسه الأحمق خرجت الفتاوي المجرمة التي تبيح لصواريخ الناتو تدمير ليبيا لخلع نظام يرفضه الجميع, ولكن لا يتبني الجميع قرار القتل والدمار لتغيير الأنظمة الفاسدة, ولكن يتم استغلال الدين, من فقهاء مجرمين عبيد للمال والسلطان الذي يزول, ضد الحق الذي لا يزول ويحرم سفك الدماء البريئة, التي لا تعرف بأي ذنب قتلت!. وأعتقد أن الأنظمة العربية غارقة حتي أذنيها في الخطأ الأوديبي, حتي وصل الأمر لظاهرة أعتبرها عجيبة من عجائب الزمن الحديث, وتنافس في غرابتها كل الأساطير الخرافية القديمة, وهي التوريث فمن أين أتت هذه الأنظمة بالجرأة في توريث الحكم لسلالتها, بعد أن كانت هي ثمرة للثورة علي الأنظمة الملكية الرجعية, ولكن هذه الثمرة الفاسدة نتيجة طبيعية لاحتكار الحكام الحكم, وخطف الوطن باعتبارهم الأدري والأعلم بمصالح شعوبهم, ولم يسلم من هذه النقيصة حاكم, فليس منهم أحد بلا خطيئة, ولكن تعددت الأخطاء والمشكلة في الأصل واحدة, وهي خطف الوطن لفئة أو حزب أو فرد, تري عن قناعة أنها القادرة والأمينة علي مصالح الوطن, فانفجرت الثورة كان من الطبيعي أن تتمرد الشعوب العربية علي هذا المسار الذي يحكمها بمنطق ضد التاريخ, وعكس التيار العالمي, فمنطق العصر الآن المشاركة الفعالة في الحكم, بعد أن أصبحت المعرفة وتبادل المعلومات سداح مداح, فاضطرب المشهد الإعلامي الذي يقدر علي فرض صورة نمطية مشرفة للحاكم الأب, الذي لا يناقش ولا يحاسب, وسجلت الإحصائيات أن أعلي نسبة للاشتراك في شبكة الانترنت عند العرب, الذين رفضوا التعتيم الإعلامي النمطي, فأدت إلي ثورة علي الفساد والاستبداد لم يتخلف عنها أحد, وترفض أن يحتكرها أحد! فكانت قيامة جماعية لم يسبق لها مثيل. تكاليف الثورة باهظة, ويدفعها الشعب كله, وعلينا أن نتدارك ما يمكن تداركه حتي لا تزيد المعاناة, فلن تنجح الثورة إلا إذا وصلت إلي أهدافها ببناء كيان وطني قوي, لا تحتكر السلطة فيه أيديولوجيا معينة تحت ستار الدين أو الوطنية, ولكن بناء أسس سياسية واجتماعية تخرج أفضل من فينا, لقيادة الوطن إلي بر الأمان, وحل المشكلات التي جمدها الاستبداد والفساد, فتراكمت بلا حلول, ما دام غاب النقد الذاتي, ورفع شعار ليس في الإمكان أفضل مما كان!. منع احتكار الثورة من المتطرفين ينقذها من غوغائيتهم, ففي مرحلة البناء ولملمة شظايا الوطن, يصبح التطرف جريمة, لأنه ضد العقل والعلم, وهما القادران علي وقف نزيف الخسائر, الذي يتحمله المواطن العادي, الذي يخرج يوميا في احتجاجات فئوية, كلها تطالب برفع مستوي المعيشة, ولا يتحمل تجارب متطرفة من غوغائيين, كلما هدأت النفوس لا يلبثوا أن يشعلوها حتي يضمنوا لأنانيتهم أن تتصدر المشهد السياسي عن طريق الوفرة الإعلامية المتاحة لمن هب ودب, أو الأخطر هؤلاء القلة التي يتم تمويلها من الخارج, رغم أنها لا تمثل الشعب في شيء, إلا في إيجاد الإثارة, لمنع أي تقدم حقيقي في طريق البناء والاستقرار, بالتشكيك في أي خطوة إيجابية, دون أن نعرف فيما تنفق تلك الأموال, وعلي من تعود فوائدها, فالشعب يريد أن يفتح هذا الملف. التطرف عن حسن نية أو سوء نية, يقود إلي نمط أسطوري آخر, وهو نمط شمشون الذي يمثل العنف والمراوغة, وعندما يستنفد كل الألاعيب السياسية الثورية, وتنضب الشعارات المحبوكة والمسبوكة في الدوائر المعادية, ينتحر هادما المعبد علي الجميع, فهناك من يهدف لإضعاف الدول العربية داخليا لمصلحة المشاريع الاستعمارية المتجددة, خاصة بعد الأزمات المالية العنيفة التي تمر بالرأسمالية العالمية في معاقلها الغربية, فتكون الدول الضعيفة مغنما سريعا, لتخفيف وطأتهم الاقتصادية, فتأمين السيطرة علي منابع النفط, وفتح الأسواق عنوة, ليس شأنا هينا في الأطماع الغربية, كما يروج عملاؤهم, الذين يسوقون للتدخل الأجنبي لحماية المدنيين, مع أن المدنيين هم من يذهبون ضحية هذا التدخل... ولكنها عنزه ولو طارت!. العقلانية والعلمية بحزم التواضع, فالتواضع لا يعني التسبب, وترك الأمور للسفهاء والعملاء, فمسئولية ملايين البشر التي تهفو للأمن والعمل والغذاء, لا تتحمل الفوضي, وحلول الفضائيات طق حنك, كما لم تتحمل من قبل جمود الاستبداد, فكلاهما سواء في الخراب المستعجل, ولابد من إيجاد مساحة سياسية للعمل السياسي, لا تتشح بالفوضي أو الاستبداد, ومعتمدين في ذلك علي الشعب العربي في مصر, وغيرها من البلاد العربية, الذين عانوا كثيرا من الخطأ الأوديبي, وصبروا طويلا, وعلي استعداد للصبر والتضحية ما دام سيصل بهم إلي بر الأمان, فيعود الجميع إلي ثكناتهم, العامل لمصنعه, والطالب لمدرسته, والسياسيون إلي صناديق الانتخاب, وإلا سيكتب علينا مصير سيزيف كلما بدأنا نهضة يتم إجهاضها لنبدأ من جديد!. المزيد من مقالات وفاء محمود