يري رجب طيب أردوغان رئيس وزراء تركيا أن الدولة يمكن أن تكون علمانية, ولكن ليس بالضرورة أن يكون قادتها علمانيين, وذهب دون مواربة إلي أن الدولة العلمانية ليست ضد الدين, بل هي محايدة تجاه الأديان, وتقف علي مسافة متساوية منها وتحمي حرية الاعتقاد وأداء الشعائر الدينية وأنه مع هذه الدولة لكنه ليس علمانيا علي المستوي الشخصي, كما ذهب إلي أبعد من ذلك عندما نصح بأن تستفيد مصر من تجربة تركيا علي الرغم من إدراكه أن مثل هذه النصيحة لا تلقي قبولا لدي الإسلاميين الذين كانوا في مقدمة المحتفين به, بل وربما تثير غضب الكثيرين منهم! ولقد حادثني أحد المنتمين إلي جماعة الإخوان عقب زيارة أردوغان لمصر وتصريحاته عن الدولة العلمانية بأن اختيار العلمانية صعب علي إخواني نشأ فوجد قيادته تطالب بإقامة دولة الإسلام (أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم لكم علي أرضكم) واقتنع بأن الاسلام مستهدف دائما من الغرب وقرأ في سنوات تكوينه عن خطط الغرب لتدمير الاسلام بيد أبنائه, وفي منتصف عمره انشغل بمواجهة الشيوعيين والملحدين وجرأتهم علي الدين, وأصبح بعدها مطاردا ومعتقلا, ونشأت حوله ثقافة وفقه وفكر تشكلت بالمعتقلات وتحت التعذيب, ثم خرج من السجن خصما لحاكم لايريده, وطبقة سياسية تكيد له في رزقه ومعاشه, ثم فجأة وجد نفسه حرا بنصر لم يصنعه وبشروط لم يضعها,, ومشكلته أن الديمقراطية تلزمه بالحكم إذا فاز بلعبتها فماذا هو فاعل؟! لقد قدم له أخوه التركي الحل, لكنه لم يستوعبه وذلك لأنه يملك النظرية لا التجربة التي مر بها جاره التركي, وهناك فرق كبير بين من علم بالتجربة ومن خاضها وتمرس فيها. فلنفترض أن الإسلاميين فازوا بحصة من الأصوات تجعلهم شركاء في أي حكومة ويكون من نصيبهم وزارة السياحة علي سبيل المثال فماذا ستكون أولويات وزير السياحة الإخواني؟ هل هي إضافة مزيد من الملابس علي جسد سائحة ألمانية علي شواطئ شرم الشيخ أم المزيد من الوظائف للشباب المصري العاطل؟! منطق أردوغان يقول إنها الوظائف فبتوفيرها سيفوز الإخوان ووزيرهم في الانتخابات مرة أخري, أما لو كان الأمر غير ذلك وخسر بضعة آلاف من المصريين وظائفهم في قطاع السياحة, فهؤلاء ومعهم الأحزاب المنافسة للاخوان سيتذكرون ذلك أكثر من منظر سائحة ألمانية محتشمة علي رمال شرم الشيخ.. وقد لفت نظري أحاديث الشباب علي الفيس بوك أن انبهارهم بشخصية أردوغان لا يرتبط بموقف الزعيم التركي تجاه الانتهاكات الاسرائيلية فقط, فالاعجاب به سابق علي قراره الأخير في شأن خفض مستوي العلاقات الدبلوماسية وتجميد الاتفاقات العربية مع إسرائيل, فثمة وعي لديهم بأن نجاح الرجل وحكومته في إدارة البلاد وتطوير قدرتها الاقتصادية والتكنولوجية والمعرفية هو الذي أتاح له اتخاذ موقف قوي يستند علي أساس في الواقع ولا يقتصر علي خطاب حماسي مماثل لما كان يحدث في السابق من زعماء عرب يتوعدون الاسرائيليين بأنهم سوف يلقون بهم في البحر! في الوقت الذي كانوا يتلمسون فيه من الدول العظمي المناصرة لهم المعونات والقروض لسد عجز موازنة الدولة!! فتركيا هي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي قفز اقتصادها إلي المركز الثامن عشر عالميا, أي أنها باتت تلامس مجموعة الكبار, فهل يمكن لثقافة الأحزاب الدينية الطامحة إلي الحكم أن تستوعب الدروس وتتجنب تكرار الأخطاء كما استوعب أردوغان وزملاؤه دروس وأخطاء حزب الفضيلة الذي كان معظمهم من بين أعضائه فتجنبوا تكرار الأخطاء التي أدت إلي حظره وإقصائه. لقد امتلك الرجل وزملاؤه الحنكة السياسية التي مكنتهم من استيعاب درس فشل النهج الاسلامي المتشدد, فاستطاعوا إقناع معارضيهم قبل أنصارهم بأنهم لن يهددوا علمانية الدولة, فقد ترفع الرجل وقيادات حزبه بذكاء عن الدخول في متاهات التفاصيل متعلمين دروس الماضي التي أكدت لهم ضرورة تجنب مناطحة صخور الواقع, آخذين بالقاعدة الشرعية التي تؤمن بأنه أينما وجدت المصلحة العامة فثم وجه الله. هل لدينا فسحة من الوقت لكي لا نبدأ من حيث انتهي الآخرون!؟ د. عماد إسماعيل