من الآيات القرآنية التي افتتحت بقوله تعالي يسألونك وكان الجواب بفعل الأمر قل قوله: سبحانه:( يسألونك ماذا ينفقون. قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامي والمساكين وابن السبيل. وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم..). وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية, أن بعض المؤمنين سألوا رسول الله صلي الله عليه وسلم أين ينفقون اموالهم فأنزل الله تعالي علي رسوله صلي الله عليه وسلم هذه الآية. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان عمرو بن الجموح رضي الله عنه شيخا كبيرا, وكان عنده مال كثير فقال: يا رسول الله بماذا نتصدق وعلي من ننفق؟ فأنزل الله تعالي هذه الآية. والمعني: يسألك أصحابك يا محمد: أي شيء ينفقونه من أصناف الأموال؟ قل لهم: ما أنفقتم من أموالكم فاجعلوه للوالدين قبل غيرهما ليكون أداء لحق تربيتهما, ووفاء لبعض حقوقهما, وللأقربين وفاء لحق القرابة والرحم, ولليتامي لأنهم فقدوا الأب الحاني الذي يسد عوزهم, والمساكين لفقرهم واحتياجهم, وابن السبيل لأنه كالفقير لغيبة ماله وانقطاعه عن بلده. والإنفاق علي الوالدين والإحسان إليهما قد ورد في كثير من الآيات القرآنية, والأحاديث النبوية. ومن ذلك قوله تعالي ( وقضي ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما, فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) سورة الإسراء:24,23. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلي النبي صلي الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال ثم من؟ قال: قال أمك ثم من؟ قال: أمك. قال ثم من؟ قال: أبوك والنفقة علي الأقربين ورعايتهم وصلتهم قد أمر الله تعالي بها في مواضع متعددة, منها قوله تعالي ( وآت ذا القربي حق والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا) سورة الإسراء: الآية26. وفي الصحيحين أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: من سره أن يبسط له في رزقه, وأن ينسا له في أثره, أي: وأن يؤخر له في عمره فليصل رحمه. وأما الإنفاق علي اليتامي, والرحمة بهم, ورعاية مصالحهم, فيكفي أن الله تعالي قد أمر بذلك خمس مرات في الربع الأول من سورة النساء. فقال تعالي في الآية الثانية( وآتوا اليتامي أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب, ولا تأكلوا أموالهم إلي أموالكم إنه كان حوبا كبيرا). وقال سبحانه في الآية الثالثة( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامي فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثني وثلاث ورباع). وقال عزوجل في الآية السادسة( وابتلوا اليتامي حتي إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم...). وقال تعالي في الآية الثامنة( وإذا حضر القسمة ألوا القربي واليتامي والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا..) وقال سبحانه في الآية العاشرة( إن الذين يأكلون أموال اليتامي ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا..). وفي الصحيحين أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا, وأشار بإصبعيه السبابة والوسطي. والإنفاق علي المسكين الذي لا يجد قوت يومه وعلي ابن السبيل الذي انقطع عن ماله أمر واجب. ففي الصحيحين عن صفوان بن سليم رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال الساعي علي الأرملة, والمسكين, وابن السبيل, كالمجاهد في سبيل الله, أو كالذي يصوم النهار, ويقوم الليل. ولم يتعرض سبحانه في هذه الآية لبقية المحتاجين كالسائلين والغارمين, إما اكتفاء بذكرهم في أيام أخري, وإما بناء علي دخولهم تحت عموم قوله تعالي في ختام هذه الآية وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم فإن هذا الختام تذييل قصد به الحض علي فعل الخير, لأن المؤمن عندما يشعر بأن الله يري عمله ويجازيه عليه بما يستحقه, يشجعه ذلك علي الاستمرار في عمل الخير, وإذا كان بعضنا يكثر من عمل الخير عندما يعلم أن شخصا ذا جاه يسره هذا العمل, فكيف يكون الحال عندما يعلم المؤمن التقي أن الذي يري عمله ويكافئه عليه هو الله الذي لا تخفي عليه خافية, والذي يعطي من يشاء بغير حساب. وبعد أن أمر الله رسوله صلي الله عليه وسلم بأن يرشد أتباعه إلي بذل المال من أجل رعاية الوالدين والأقريين واليتامي والمساكين وابن السبيل, أتبع ذلك بالحض علي الإنفاق وبذل النفس في سبيل إعلاء كلمة الله فقال( كتب عليكم القتال وهو كره لكم..). والقتال إنما شرع في الإسلام لمقصدين أساسيين أولهما: الدفاع عن الدين والنفس والمال وكل ما يجب الدفاع عنه. وثانيهما: نصرة المظلوم, ولم يشرع للظلم أو العدوان علي الغير. ويري كثير من المفسرين أن القتال إنما كان مكروها للنفوس لما فيه من التعرض للجراح وقطع الأطراف, وإزهاق الأوراح والإنسان ميال بطبعه إلي الحياة, وأيضا لما فيه من إخراج المال ومفارقة الوطن والأهل, والحيلولة بين المقاتل وبين طمأنينته ونومه وطعامه, فهو مهما يكن أمره فيه ويلات وشدائد, ومشقات تتلوها مشقات, ولكن كون القتال مكروها للنفوس لا ينافي الإيمان ولا يعني أن المسلمين كرهوا فرضيته, لأن أمتثال الأمر قد يتضمن مشقة, ولكن إذا عرف الثواب هان في جنبه اقتحام المشقات, ولا شك ان القتال في سبيل الله مع ما فيه من صعاب وشدائد ستكون عاقبته العزة في الدنيا, والسعادة في الآخرة. ويري بعضهم أن كره المسلمين للقتال ليس سببه ما فيه من شدائد ومخاطر وتضحيات بدليل أنهم كانوا يتنافسون خوض غمراته, وإنما السبب في كراهيتهم له هو أن الإسلام قد غرس في نفوسهم رقة ورحمة وسلاما وحبا, وهذه المعاني جعلتهم يحبون مصابرة الأعداء ويكرهون قتالهم املا في هدايتهم, ورجاء في إيمانهم, ولكن الله تعالي كتب علي المسلمين قتال أعدائهم لأنه يعلم أن المصلحة في ذلك, فاستجاب المؤمنون بصدق وإخلاص لما فرضه عليهم ربهم. ويبدو لنا أن الرأي الأول أقرب إلي ظاهر الآية, لأن القتال فريضة شاقة علي النفس البشرية, بحسب الطبع, والقرآن لا يريد أن ينكر مشقتها, ولا أن يهون من أمرها, ولا أن ينكر علي النفس البشرية إحساسها الفطري بكراهيتها, ولكنه يعالج الأمر من جانب آخر, بأن يقرر أن من الفرائض ما هو شاق ولكن وراءه حكمة تهون مشقته وتسهل صعوبته, وتحقق به خيرا مخبوءا قد لا يراه النظر الإنساني القصير, وقد بين القرآن هذه الحكمة في قوله:( وعسي أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسي أن تحبوا شيئا وهو شر لكم). وقال القرطبي: والمعني: عسي أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة وهو خير لكم في أنكم تدافعون عن حقكم, وتؤجرون, ومن مات منكم مات شهيدا, وعسي أن تحبوا الدعة وترك القتال وهو شر لكم في أنكم تغلبون ويذهب أمركم, ورحم الله القائل: رب أمر تتقيه جر أمرا ترتضيه خفي المحبوب منه وبدا المكروه فيه *** وقد أجمع العلماء علي أنه إذا نزل العدو بساحة البلاد وجب القتال علي كل المسلمين, كل علي حسب قدرته. وقد ختم سبحانه هذه الآية الكريمة بقوله:( والله يعلم وأنتم لا تعلمون) أي: الله يعلم ما هو خير لكم وما هو شر لكم في الواقع وأنتم لا تعلمون ذلك, فبادروا إلي ما يأمركم به, لأنه لا يأمركم إلا بما علم فيه خيرا لكم, وانتهوا عما نهاكم عنه لأنه لا ينهاكم إلا عما هو شر لكم. وبذلك نري أن الله تعالي قد أمر نبيه صلي الله عليه وسلم في هاتين الآيتين أن يجيب أتباعه علي سؤالهم, بما ينفعهم ويصلحهم في دنياهم وفي آخرتهم. وصدق سبحانه إذ يقول والله يعلم وأنتم لا تعلمون.. المزيد من مقالات د. محمد سيد طنطاوي