قد يبدو الوقت غير مناسبا للحديث عن قضية القنوات الفضائية المسمومة بينما تمر البلاد بوقت عصيب وأحداث متتابعة وتطورات تكاد تكون يومية.. جعلت أنفاسنا متلاحقة وبصيرتنا مشوشة وسط تحليلات عديدة ومتباينة لهذه التطورات. ولكن القضايا بالفعل متشابكة، ولا يخفى على أحد أن الاعلام كان إحدى الأسلحة العديدة التى وجهها النظام البائد لتجريف عقول الشعب ثقافيا وأخلاقيا.. فبينما كنا نجلس أنا وابنتى البالغة من العمر ستة عشر عاما نقلب بين قنوات التلفاز المختلفة لنتفق على شىء نشاهده سويا وقعت أعيننا ومسامعنا على أقل ما يمكن وصفه بالوضاعة.. إعلان لفيلم العيد "أنا بضيع يا وديع".. وطوال مدة عرض الاعلان أصابنا حالة من الذهول الممزوجة بالغثيان للدرجة التى أستطيع معها أن أجزم أن ملامحنا قد اختفت لتحل محلها علامات استفهام.. ولأول مرة أشعر بالعجز أمام اسئلة ابنتى التى قادتنا إلى مناقشة طويلة أعلم جيدا أنها كانت الطرف الأقوى حجة فيها بعد أن أصابها هذا الاعلان بحالة من التشويش وعدم الاتزان. بدأت المناقشة باستنكار شديد حول كيفية مشاركة فنانة مثقفة ك"نيللى كريم" فى هذا العمل! وفى ثوانى فقدنا احترامنا لها، وانتهت بسؤال عن حقيقة وجود مراقب يجيز ما يصح أن يظهر على شاشات التلفاز وما لا يصح.. ورغم أننى أستطعت أن أثبت لها أن ما كافحت طوال سنوات عمرى لأزرعه داخل وعيها هو الصحيح الذى لا يصح سواه، إلا أننى لم أستطع أن أفسر لها غياب دور المراقب وأن الانفتاح فى انشاء قنوات فضائية تتستر خلف فكرة الرسالة الاعلامية الهادفة أو ربما الترفيهية بحجة ان هذا الشعب مسكين وأن من يفكر فى الترفيه عنه ولو بالإسفاف قد يصبح بطلا قوميا، للأسف الشديد ما هى إلا مشروعات تجارية رخيصة هدفها تحقيق مكاسب خرافية فوق أنقاض قيم ومبادىء شقينا نحن الأباء لنزرعها فى وعى أبناءنا فى هذا الزمن الذى أصبحنا نسير خلاله عكس الاتجاه.. وبقى السؤال الأصعب.. إذا كان الانحطاط الأخلاقى يشين صاحبه كما تعلمنا وتربينا، فكيف يمكن للإعلام أن يتعامل معه وكأنه فكر عظيم يبيح الإيماءات الجنسية والألفاظ المنحلة وكأنها كلمات منتقاه بعناية من صحيح المختار؟ بدأت أبحث عن ملاك قنوات "ميلودى" وعظمت حيرتى عندما اكتشفت أن جمال أشرف مروان - حفيد الرئيس الراحل وزعيم الأمة جمال عبدالناصر - هو رئيس مجلس إدارة شركة ميلودى. وتساءلت هل كان من الممكن أن يتجرأ هذا الحفيد فى حياة جده ويهدر دم القيم والمبادىء ليسرى السموم فى عقول المصريين! وأن يستبيح خيانة أهل بلده ليعلمهم كيف يكون الفسق والفجور! رحمة الله عليك يا جمال.. ومنذ ذلك الحين يسيطر على عقلى تساؤل ليس له اجابة مؤكدة.. ما هو الهدف الحقيقى من وراء هذه النوعية من الاعلام المنعدم الضمير؟ أهو تحقيق مكاسب مليارية حتى ولو وصل الاستهتار مداه! أم أن هناك أهداف أخرى خبيثة أخشى أن أفسرها هنا، فأنا أعلم أن الكثيرين لا يؤمنون بنظرية المؤامرة برغم أنها حقيقة مثبتة فى كل كتب التاريخ وبرغم إيمانى المطلق بكلمات أمير الشعراء أحمد شوقى عندما قال "مخطىء من ظن يوما أن للثعلب دينا".. واذا كان الأمر مقصورا على تحقيق هذه المكاسب فلماذا لا يتجهون إلى تجارة الفاكهة مثلا والتى أصبحت تحقق مكاسب خرافية أيضا ويتركون الرسالة الاعلامية لأصحابها من الشرفاء!! ويتركون معها عقول أبنائنا التى باتت فى حاجة ملحة لمن ينقذها من أمثالكم!! أما عن الصدمة الأشد بطشا بعقلى، أننى علمت أن حملة الاعلانات العبقرية "وديع وتهامى" التى أخشى أن تكون ساهمت فى ازدياد عدد مرضى السكر وضغط الدم فى مصر "أفلام عربى.. أم الأجنبى" - العبارة الشهيرة التى أصبحت تستخدم كسباب فى الشارع المصرى - بكل تجاوزاتها قد حازت على الجائزة الكبرى "جراند برى" فى مهرجان لينكس بدبى فى 2010. كم أود أن أتساءل هنا - وبنفس نص لفظ الاعلان "ما البلد كلها ماشية بالتعريض" - هل وصل "التعريض" لدرجة أن تفوز هذه الحملة بجائزة تقدير؟ أما عن دور الرقابة هنا فأنا مازلت أتساءل هل يوجد من الأصل رقابة على القنوات الفضائية أم أن الأمر متروك لضمائر أصحابها وبختك يابو بخيت ما بين ضمائر حية وأخرى ليست فقط بميتة بل وأصابتها العفونة وأصابتنا معها! أم أننا أصبحنا لا نؤمن إيمانا حقا بدور الاعلام فى تشكيل وعى الأمم! أوليس ما أصابنا هو أعظم دليل على مدى أهمية الرسالة الاعلامية! واذا كان التطهير والاصلاح لا يزالان بحاجة إلى ثورات أخرى، فهل نضيع السنوات القادمة فى تنظيم مظاهرات جمعه للاعلام وجمعه للأمن وجمعه للبطالة وجمعه للغلاء الغير مبرر وجمعة لرفض المحاكمات العسكرية...ألم تصل الرسالة بعد؟ المزيد من مقالات ريهام عادل