كومة من الأوراق في دوسيه مهترئ لا يتخلي عنها.. تعرفه قاعات المؤتمرات والندوات والمقاهي الثقافية.. تختبئ عيناه خلف عدسات زجاجية سميكة.. ملبسه بسيط.. هندامه غير متأنق.. لا يغير من هيئته وشعره غير المصفوف.. يبدو وكأنه شاعر فاشل يحمل بين جنباته قلبا نصف فارغ ونافذة يطل منها علي الدنيا وبقايا أحلام لم تكتمل.. صياد نصوص يرتاد المقاهي والندوات وغابات الكلمات.. حتي يعثر علي الطريدة المباغتة والتي لا تليق بصياد أحب الصيد أكثر مما أحب الطرائد.. أضاف الهم عشرة أعوام فوق أعوامه الخمسين.. يسكن حجرة خالية من الأثاث إلا من مقعد مهترئ ومنضدة هي في الأصل مقعد دون مسند.. ملابسه معلقة علي مسامير بالحائط الذي رسمت به الشروخ خريطة غير مقروءة.. ينام فوق مرتبة تفترش الأرض جوار كتب متناثرة هنا وهناك.. لم يكن وحيداً في الغرفة وإنما تشاركه الجرذان والحشرات التي ألف العيش معها.. والتي كثيراً ما تتركه يعاني الوحدة حين لا تجد ما تقاسمه من طعام.. إحدي النساء شكت يوماً لعمر بن الخطاب: أن بيتها لا تدخله الجرذان.. فهم عمر مراد المرأة وتبسم لفصاحتها قائلاً لأصحابه: أعطوها زيتا ودقيقا وشعيرا. لديه فاترينة زجاجية علي عجلات أربع يبيع من خلالها العطور الرخيصة وأعواد البخور في إحد الشوارع المؤدية إلي مقام السيدة زينب.. منذ نعومة أظفاره وهو يهوي القراءة والكتابة التي لم يقرأها أحد بعد..!! يحلم أن يكتشف أحدهم موهبته وهذا سر تردده علي الندوات والمقاهي الثقافية. حتي جاءته الفرصة من أحد لصوص السطو علي أفكار وإبداعات الآخرين.. ما أكثر سرقات الرسائل العلمية في الجامعات.. حتي الساخر الماسح باسم يوسف كان هناك من يكتب له المقالات في الصحف لقاء أجر.. وكأنها من بنات أفكاره.. حتي برنامجه البرنامج نسخة مقلدة من برنامج أجنبي.. المدهش في الأمر أن صغار اللصوص يدخلون السجن وكبارهم يدخلون التاريخ.. أخذ اللص يقرأ واحدة من روايات بائع العطور الذي يمتلك اللغة القوية والسلسة والمترابطة.. إن أروع الجرار.. تصنع من الطين العادي.. إنه أمام مثقف واعٍ صدمته صخور الأيام فصقلته.. الحياة ليست بسطوحها بل بخفاياها.. ولا المرئيات بقشورها بل بلبابها.. ولا الناس بوجوههم بل بقلوبهم.. البؤس كان المحفز المنبه النشط لديه للكتابة.. لقد وقع اللص علي صيد ثمين.. يريد الشهرة ولا يكتفي بكونه رئيساً لمجلس إدارة واحدة من كبريات الصحف.. عرض علي بائع العطور مبلغا من المال يسيل له اللعب مقابل روايته والتي لم يتردد علي الفور في الموافقة.. وبعد شهرين ذهب لحضور حفل توقيع الرواية في إحدي دور النشر.. اللص يجلس في الصدارة.. ممتلئا بالزهو والفخر.. تزين معصمه ساعة ذهبية فاخرة وهو يوقع الرواية المشتراة التي لم يغير فيها حرفا أو كلمة حتي العنوان لم يغيره.. الشيء الوحيد الذي تغير هو المؤلف الوهمي السارق مجهودات وفكر غيره بثمن بخس. فجأة وجد أمامه بائع العطور وهو يدفع إليه بالرواية لكتابة الإهداء والتوقيع واحتار ماذا يكتب..؟! توقف بعض الوقت ليكتب: الكلمة سحر لا يتقنها غير البسطاء.