يعرف المهتمون بالحداثة الأوروبية أن الطباعة كانت واحدة من أدواتها. أتاحت الطباعة المعرفة التي لم تعد بعدها رهن اعتقال نخبة ما. قبلها بثلاثة عقود تقريبا قرر مارتن لوتر ترجمة الكتاب المقدس للغة الألمانية، وقيل أنه علّق صفحات ترجمته علي أسوار كنيسته، لإتاحتها للجميع. خطوة لوتر كانت تعني أن الكتاب المقدس لن يكون حكرا علي أحد. سلطة فهمه، وتفسيره، سوف يتم استعادتها من كهنة المعابد لتكون ملكا للجميع. رواد الحداثة المصرية استوعبوا درس الحداثة الأوروبية مرة بالاحتكاك بالغرب، ومرة بالاصطدام بالرجعية الدينية. طه حسين بعد صدمة كتابه "في الشعر الجاهلي" وإحالته للتحقيق أمام النائب العام وتكفيره أدرك أن أي محاولة لتفكيك الرجعية الدينية لن تكون ذات جدوي إلا بتوريط الناس في المعرفة ليكونوا قوة مضافة لجهد التفكيك. وعليه كان كتابه "علي هامش السيرة"، ثم كتابه "الوعد الحق". في التوقيت نفسه تقريبا أصدر محمد حسين هيكل "حياة محمد" و"الصديق أبو بكر" و"الفاروق عمر" و"في منزل الوحي". وأصدر أحمد أمين "فجر الإسلام" و"ضحي الإسلام" و"ظهر الإسلام". في كل هذه المؤلفات سعي أصحابها لإتاحة المعرفة بالأصول التي تبني الرجعية الدينية عليها رجعيتها. في كل هذه المؤلفات أيضا جرت أهم عملية "أنسنة" للتاريخ الإسلامي ورموزه. بدا رجال هذا العهد كالرجال، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، وتبددت صورتهم كأساطير، حتي أن تمايزهم بدا كتمايز أرواح كبيرة وليس ككائنات مسّتها يد الله. إيمانهم نفسه بدا كتجربة إنسانية. في كتاب مؤمن المحمدي الجديد "ليالي قريش" وعدا جديدا بأن تكون المعرفة متاحة. ثمّة جيل جديد اعتاد أن يحصل علي المعلومة من الانترنت في ثوان ودون عناء كبير في البحث. هذا الجيل لم يعد بالإمكان مخاطبته بالطريقة نفسها. كُتب كالتي سبق ذكرها علي حرص أصحابها أن تكون بلغة سهلة لم تعد مجدية لفئات من الشباب لم تعتد القراءة أساسا إلا علي شاشات الكمبيوتر. لهذه الفئات يتوجه كتاب مؤمن المحمدي، الذي يروي فيه قصة قريش، منذ أيامها الأولي، قبل ميلاد الرسول بقرون. الكتاب مكتوب باللهجة العامية، مع حرص علي أن تكون عامية فصيحة إلي حد كبير. يشوبه بعض التسطيح؟ لا شك في هذا، لكنه تسطيح يبدو كما لو كان مقصودا. مؤمن يعرف جمهوره، ويعرف أن جمهوره مُنهك بسبب تسارع الأحداث واضطراب الأحوال والأفكار طوال الأربع سنوات الأخيرة. جمهور المحمدي وجمهور كتابه هو تحديدا الجمهور الذي تفتّح وعيه علي ثورة يناير، تلك التي افتتحت تاريخ الأسئلة والمراجعات بل والتشككات والارتباكات أيضا. بقدر الإمكان يذكر مؤمن مراجع كتابه، علي استحياء. يعرف أن جمهوره ملول، لن يعود إلي هذه المراجع، هو يرغب في أن يفك الاشتباك بين الطريقة التي يحاول المجتمع تربيته عليها وبين موقفه الجديد من العالم. كيف يمكن لشاب في الثامنة عشر أن يتلقي خطاب إمام جامع تقليدي وهو يتابع أخبار داعش علي الفيس بوك؟ كيف يمكن لهذا الشاب أن يستقبل فتاوي تناقِش استخدام اللبوس في نهار رمضان وهو يشاهد فيلم "نظرية كل شيء" علي اليوتيوب؟. هذا شاب يريد "الخُلاصة"، خلاصة الأزمة، يشعر بأن الأزمة كامنة في التاريخ، ويرغب في أن يقبض عليها ليفهم المأزق الذي فُرض عليه أن يعيشه. المحمدي يساعده علي ذلك، بكتاب (ضمن سلسلة سوف تصدر تباعا) لا يشتبك مع "العقيدة" ويحافظ علي تجنيبها طوال الوقت، وبلغة تبدو كلغة فيسبوكية "رفيعة"، لكنها صالحة لمخاطبة جمهور اختاره المحمدي واختار المحمدي. في كتاب مؤمن المحمدي الجديد "ليالي قريش" وعدا جديدا بأن تكون المعرفة متاحة. ثمّة جيل جديد اعتاد أن يحصل علي المعلومة من الانترنت في ثوان ودون عناء كبير في البحث