حان الأوان للحديث، في تناولنا لعملية التنظير للإنترنت، عن البحث الذي قدمته لمؤتمر دارهام الذي تناول اللغة العربية الجديدة eArabic التي تتبلور عبر هذا الوسيط الجديد. وهو بحث حاولت أن اتخذ من تجربة مجلة (الكلمة) الشهرية الألكترونية التي أصدرتها من عام 2007 منطلقا له، لذلك كان البحث بعنوان «الكلمة: الثقافة العربية والأصوات المهمشة في الفضاء الافتراضي». وقد سعيت فيه للاستفادة من بنية التصفح علي الانترنت، وروابطها المتفاعلة والمتناظرة معا، من منطلق الوعي بأهمية محتوي الشكل في أي دراسة تسعي للاستفادة من تداخل المناهج وتعدد المقتربات، وذلك بالربط بين تجربة مجلة (الكلمة) من ناحية، والمؤتمر الذي انعقد بالتزامن مع مؤتمر دارهام للمدونين وتنامي عددهم في العالم عامة، وفي عالمنا العربي خاصة من ناحية ثانية، وواقع المهمشين في مصر، وفي العالم العربي من ناحية ثالثة. وبعد التعامل مع تلك الروابط المختلفة بكل من هذه المتغيرات الثلاث بغية البحث عن المشترك بينها، خاصة وأنني اكتشفت أن في مصر وحدها أكثر من مئة وستين ألف مدوّن، يفرضون علي الفضاء الالكتروني بنية لاتزال تبحث عن هوية من ناحية، وعن اسم من ناحية اخري، حيث أنه لم يتم الاستقرار بعدعلي ترجمة عربية واحدة للكلمة الانجليزيةBlog والتي تستخدم كما هي في أكثر من لغة، حيث تترجم مرة مدونة، وأخري معلقة. لكن معلقات هذا العصر لاتعلق علي جدران الكعبة كما كان الحال مع الشعر الجاهلي، وإنما علي جدران شبكة افتراضية يتجاوز زوارها زوار الكعبة الحقيقية بعشرات، وربما بآلاف المرات. ولا تكتب بماء الذهب الباقي، ولكنها تكتب بالضوء وذراته العابرة، والتي سرعان ما تتبدد. كما أنها، وهو الأهم، لا تحظي بأي اتفاق جمعي علي أحقيتها بالتعليق علي جدران تلك الكعبة الافتراضية كما كان الحال مع المعلقات القديمة. وإنما تخضع لمبادرات الأفراد ولا يحكمها منطق فكري محدد، حيث تتباين فيها المنطلقات من أشدها تزمتا وأصولية حتي أكثرها تحررا وعقلانية. فقد أصبحت صوت المهمشين الذين لايمكن السيطرة عليهم، ولا يعرف أحد منطق العلاقات التي تجمعهم. لذلك كثر الحديث عن «العشوائيات الإنترنتية»، وهو حديث علي جانب كبير من الصواب. لأنه يسلط الضوء علي المشترك بين بنية تلك الاستخدامات العفوية غير المخططة، وغير المسيطر عليها، وبين بنية المدن العشوائية. وقد حاولت في البحث الذي قدمته في هذا المؤتمر الربط بين بنية هذا المجال التي تتسم بالعفوية والسيولة والتلقائية وانعدام المركز ونفي السلطة وممارسة أعلي درجات الحرية بعيدا عن الرقابات والحدود ومقارع التحريم المختلفة، وبين العشوائيات التي تنتشر في عالمنا العربي، وخاصة في مدن بلدانه المزدحمة الكبيرة أو المزدحمة بالسكان، والتي يكثر فيها مستخدمي الانترنت برغم فقرهم المادي والفكري علي السواء. فالمدن العشوائية هي الأخري تتسم بالسيولة والعفوية، ولا تعرف التخطيط أو المركزية، وتسعي لنفي السلطة من بنيتها، وتخليق رقابتها الداخلية علي عالمها، بالصورة التي لاتسمح لسلطة الدولة باقتحامها أو التدخل في شئونها. وقد أردت في هذا البحث الكشف عن أن منطق بنية المدينة العشوائية فيه الكثير من منطق بنية تلك التجمعات العشوائية التي تعمر الفضاء الافتراضي للشبكة الالكترونية، سواء أكانت لمجرد القراءة والتصفح، أو للتعبير عن ذواتها المهمشة والمقهورة والمعزولة عن صناعة القرار من جهة، بل وحتي عن بعضها البعض من جهة أخري. والغريب ، وهي مصادفة دالة، أن عمر الانترنت، والتي احتفلت بعيدها الأربعين في العام الماضي، يناظر بالضبط عمر ظاهرة المدن العشوائية التي بدأت في الظهور في سبعينات القرن الماضي. وأصبح يعيش فيها، في القاهرة وحدها، أربعين في المئة من سكانها، وفي مصر كلها أكثر من ربع السكان، أي مايزيد علي الإثنين والعشرين مليون نسمة. لكن ما يهمني هنا هو أكتشاف المشترك بين البنيتين: بنية عالم مستخدمي الانترنت في عالمنا العربي، وعالم المدن العشوائية فيه، وهي ظاهرة لاتقتصر علي مصر، وإنما تعرفها كل البلدان العربية التي تتسم بكثافة سكانية معقولة. بالصورة التي يمكن معها، إذا ما بحثنا عن المشترك في محتوي شكل كل منهما، القول بأن هناك تناظرا بين المصادرات التي تنطلق منها الظاهرتان. وهي في كثير من أساسياتها مصادرات تنفي العقل والمنطق والتخطيط، وتوشك أن تكون معادية لكل ما رسخته مسيرة التحديث من عقل ومنطق وضمير حيّ وتفاؤل بالمستقبل. وهذه القيم العقلانية هي ما تسعي مجلة (الكلمة) لترسيخه في الواقع العربي في هذا الزمن الردئ، ونقل كل خبرات المجلة المطبوعة، من احترام العقل واحترام القارئ، والقيم التي رسختها فكريا وجماليا في ثقافتنا العربية إلي هذا الوسيط الجديد. لكن أكثر ما أثارني في هذا المؤتمر، ودفعني لكتابة هذه السلسلة من المقالات، هو موقع جديد يوشك أن يكون هو النقيض لا لما تنتهض عليه (الكلمة) من افتراضات ومصادرات، ولكن لكل مسيرة الثقافة العربية منذ بداية التحديث مع الطهطاوي وحتي اليوم، وهو الأمر الذي سأطرحه علي أخبار الأدب في الأسبوع القادم علها تدير حوله حوارا واسعا ومعمقا، يسعي لتدارك الأمر قبل أن يستفحل الخطر. [email protected]