تحدثت في العمودين السابقين عن المؤتمر الذي نظمته الباحثة الجزائرية الدكتورة أنيسه الداودي في جامعة دارهام، عن اللغة العربية الأليكترونية e-Arabic، أي تلك التي تبلورت في فضاء الإنترنت. وهو مؤتمر لابد من موضعته في سياقه الواسع، حيث أنه لا يكتفي بالتنظير لاستخدامات الانترنت العربية، ولكنه يسعي لطرح مجموعة من الأسئلة الأساسية حول اللغة وما يترسب فيها من حاجات استعمالية من ناحية، وما تقوم به من تحوير في التفكير والتصور من ناحية أخري. فاللغة كما نعرف جميعا ليست وسيطا محايدا، أو وعاءا فارغا نصب فيه ما نريد، ولكنها كما برهنت دراسات باختين وبورديو أداة مترعة بالدلالات والترسبات الاجتماعية والفكرية، مشتبكة بعلاقات القوي وتراتباتها، تتخللنا وتستخدمنا بقدر ما نطوعها لاحتياجاتنا ونتدخل فيها ونستعملها. فأنت لا تتحدث كي توصل رسالة محددة فحسب، ولكنك تتحدث أيضا، أو تكتب، كي تقنع الآخرين، وكي تحظي بإعجابهم، وربما _ كما جري في المناظرة التليفزيونية بين زعماء الأحزاب الأساسية الثلاثة في بريطانيا قبيل الانتخابات _ كي تكتسب سلطة وتخلخل علاقات القوي السائدة، وتقنع الآخرين بأنك أجدر بتمثيلهم ممن اعتادوا انتخابهم في الماضي من عمال ومحافظين. فقد كانت للغة زعيم جزب الأحرار فعل السحر في الجمهور، وقلبت موازين القوي في اللعبة الانتخابية. ولم ينتبه الكثيرون لما قامت به من عنف رمزي مدمر لكل علاقات القوي القديمة، ومن تأسيس لعلاقات قوي جديدة سرعان ما عبرت عنها عملية الانتخابات. إذن اللغة كائن حي بالغ التعقيد، لابد من البحث فيه بطريقة جديدة ومغايرة لتلك التي اعتادت عليها مناهج علم اللغويات القديمة. وقد نجحت الدكتورة الداودي، بهذا المشروع البحثي الضخم الذي تنظم حوله سلسلة من المؤتمرات وحلقات البحث، في صياغة مجموعة من الأسئلة البحثية الجديدة والرائدة في هذا المجال. أسئلة تتقصي طبيعة اللغة العربية المستخدمة في الإنترنت، ومدي اختلافها عن التنويعات اللغوية المختلفة الخاصة باللهجات والاستخدامات الأخري. وبماذا تختلف تلك اللغة عن العربية التي يتحدثها المتعلمون، أو العامية المثقفة، أو حتي عن اللغة العربية الحديثة التي تستخدمها الصحافة أو الإذاعة. وما هو مدي تأثير الوسيط أي الانترنت من ناحية، واللغة الانجليزية من ناحية أخري علي تلك اللغة المنطوقة/ المكتوبة. وكيف أن ضرورة ملاحقة التطورات التقنية اضطرت المستخدمين احيانا إلي كتابتها بحروف لاتينية كما في رسائل التليفون المكتوبة بها مثلا، أوما شابه ذلك. وأهم ما يسعي إليه هذا المشروع البحثي هو بحث هذه المتغيرات اللغوية بمقترب نظري يمزج التنظير للغة بمناهج العلوم الاجتماعية. وعلي سبيل المثال فإن استخدام تنظيرات هابرماس عن المجال العام يتطلب منا أن نأخذ في الاعتبار طبيعة الخطاب الذي يصوغه، ومجموعة العناصر الفاعلة فيه، وجلها تصاغ في اللغة وبها، وتحتاج منا إلي أن نأخذ اضافات ميشيل فوكو المهمة بشأن الخطاب باعتباره ساحة مستمرة ومفتوحة للصراع. تتبلور فيها مجموعة من الرؤي والقوي علي مختلف الأصعدة الاجتماعية منها والأيديولوجية والسياسية. وتتم فيها عمليات فرز تتعزز بها قوي، وتتضعضع أخري. لذلك فإن من أهم ما يكشف عنه دراسة مثل هذا الموضوع الجديد علي ساحة الدرس العربي، هو أن اللغة بمتغيراتها وبحركتها في الفضاءين الاجتماعي والافتراضي علي السواء، قد أخذت تعيد رسم علاقات القوي، وتساهم في خلخلة الكثير من رواسيها القديمة، وإدخال عناصر جديدة إلي المعادلة لم تكن موجودة من قبل، ولم تحسب لها القوي القديمة أي حساب، حتي فوجئت بما تشكله عليها من أخطار. كما كشفت في الأسبوع الماضي من خلال مثال ما جري لخالد سعيد، والذي يؤكد لمن كان لديه أدني شك أن اللغة الجديدة ليست مجرد لغة من مفردات غريبة، وإنما هي بنية تصورية وأيديولوجية مغايرة سرعان ما أكتشفت فيها علاقات القوي القديمة خطرا ملموسا يستدعي هذا العنف الذي يبدو وكأنه غير المبرر. لكن فوكو علمنا أنه حينما تمارس السلطة عنفا بهذه الدرجة، فلابد أن نبحث عن أسبابه، لأن ترموتر السلطة عادة ما يكون بالغ الحساسية للتغيرات التي تتهدد سيطرتها، أو تنال من إحكام قبضتها علي الواقع. نحن إذن لسنا بإزاء تغير سطحي في اللغة، كما يحلو للبعض تصويره، ولسنا بإزاء مجموعة من الشباب الذين لايجيدون اللغة العربية فيلجأون إلي تلك اللغة الهجين الغريبة التي تمزج العامية بالفصحي، والعربية بالانجليزية، ولكننا بإزاء مجموعة من المتغيرات والاحتياجات الاجتماعية والسياسية معا. تحتاج إلي التعبير عن نفسها، وتسعي لخلق لغة جديدة لها تعبر بها عن رؤاها، وعن آليات حراكها الجديد. وبالتالي تحتاج منا إلي تنظيرات جديدة لها تأخذ في الاعتبار أن اللغة كائن اجتماعي حي، ينمو ويتطور ويشيخ أيضا. وأن نتعامل مع الوسيط الذي ظهرت فيه بنظرة أوسع تتضافر فيها المناهج وتتعدد المقتربات، من أجل فهم حقيقة التغيرات التي تنتاب واقعنا العربي المتحول أبدا، برغم القيود التي تكبل حركته في كل مكان. وكان من بين تلك المقتربات المتعددة المناهج ما حاولت طرحه في البحث الذي قدمته في هذا المؤتمر والذي سأشرك القارئ في بعص استقصاءاته في الأسبوع القادم. Katibmisri @ yahoo. co. uk