يبدو أن إبراهيم السيد قرر أن يأخذ مقعد منتج الفيديو في كتابه الأخير (أحد عشر كلبًا) الصادر عن دار (ميريت) بالقاهرة. فالكتاب الذي احتوي علي مجموعة من النصوص أقرب في شكلها إلي قصيدة النثر، يحتفي علي طريقته الخاصة بالمُعاش والمُنزوي في الحياة اليومية. مشهدية خاصة في تلك النصوص تجعلها أقرب إلي الشريط السينمائي غير المرتب؛ فالصور البصرية هنا أشبه بالكولاج. الذات الشاعرة تجمع قصاصات ملونة وأخري جافة من لحظاتٍ كانت فيها إما فاعلة أو بلا تأثير. بداية من النص الثالث (أيام الإنسان السبعة)، تبدو النوستالجيا في حالة انعقاد دائم، موتيفات من الحنين أشبه بترميم للذاكرة. يقول السيد: (أترك تقاطعا يفضي لزقاق مسدود وأدخل الذي يليه، اصعد كأنني أتسلق تلاً صغيراً حتي أجد ضريح الخادم الذي لازم السيد البدوي أربعين عاما ومنح الزقاق اسمه) ص13. الذات هنا في حالة استنزاف للذاكرة، تلتقطها ببطء، وتزيل عنها بعض الأتربة. عملية التنقية هذه تستحلب مفرداتها الخاصة من محيط البيئة كأن تقول: (طفل نحيف يغرق الهياكل الخزفية الفارغة لطبول متعددة الأحجام داخل دلو خشبي متسخ ممتلئ بالصبغة) ص15. استمرارا في الحالة السابقة، يستدعي السيد أحد الأفلام التسعينية من الذاكرة الجمعية. فيلم آيس كريم في جليم للمخرج خيري بشارة الذي لعب علي ثيمة التمرد حتي وإن الطريق ممتدة ولا تفضي إلي شيء، المهم أن نسلكها حتي النهاية. الأحلام هنا أشبهُ بشال أزرق يطوحه الهواءُ من سماء لأخري. (أنسي المشي لأن قدمي اليمني واهنة/ أقود دراجتي البخارية/ موسيقي "الجاز" ترن في أذني/ علب مليئة بأحلام ملونة تتكسر خلفي علي الإسفلت/ المعادي لا تشبه نيويورك في يناير) ص19. بالرغم من بساطة الجمل الشعرية داخل النصّ، إلا إنه مليء بالألوان والكثافة البصرية. نصوصٌ أشبه بالموزايك؛ حيث كل قطعة لها فرديتها الخاصة. إلا أن المحصلة النهاية لتلك الألوان يغلب عليها الشحوب والبرودة. كتابة أشبه بنكهة الشتاء، كأنك كل الأشجار هنا تقفُ ببزخ ليغطي لحاءها الثلجُ. (كان تركيب ورق الحائط قبل خمسة وعشرين عاما/بزخارفه البارزة وأشجاره الخضراء الباهتة/ دليلا منقوش علي أهمية التغيير) ص39. إن الذات هنا تمارس وظيفتها كمنتج فيديو تجمع ملايين القصص المصورة من بئر الذاكرة أو الحياة اليومية لتضعها في قالب خاص، ولا تستنزف الحنين، كأن تقول: (كنت في الخامسة/خيوط زاهية الألوان تملأ الأرفف/أمي الوفية لموديل المرأة الحديثة لمجلة حواء/تبحث عن بكرة خيط ماركة كفر الدوار/ثبت لونها عبر الزمن) ص40. الحياة في الألفية أشبه بالعبثية المتحررة، لا شيء سوي خواء ومواد استهلاكية تُأخذ من رفوف المتاجر لتعلق علي جدران المعارض. محاولاتٌ مستمرة لاستنساخ وجه آندي وارهول بألوانه المتنافرة ولونه الفضي. الهوس بالجنس ليس سوي معادلاً لفراغ الحياة الحديثة كما يقول السيد، شأنه شأن الهوس بألعاب الفيديو والتسوق كأن التركيز هنا علي التمادي في التعلق وليس الشيء ذاته (العازف في الغرفة المجاورة/ يكتب عن صبيَّة آسيوية نحيلة وشاب مهووس بالبورنو) ص25. لكن البورنو يأخذ شكلاً آخر ويتحور إلي نيكروفيليا بصرية حينما يُداعب الجسد الميّت في قصيدة ممنوع لمس المعروضات (أسحب الكلمات النيئة من رأسي برفق/كمن يداعب جسد حبيبته الميّت/المتخشب قليلاً) ص57. الكتابة عن اليومي والمُعاش تحتاج إلي ألق مفرداتها الخاصة، كتابة أشبه بالنصّ الإليكتروني المأخوذ من شبكات التواصل الاجتماعي. في نصَ ذكي عن نصائح للإقلاع عن التدخين تتحرر اللغة من قيودها غير المرئية. الهاشتاجو التوتر أشبه بالصفعة داخل الجملة الشعرية. كأن يقول السيد في أحد المقاطع: (الخميس/عود ثقاب واحد سيكفي لحرق جثة/لم تتعرف علي صاحبها) ص32، ليتابع في متتالية شعرية أخري بعنوان30 يقول فيها: (من الجيد أن تسكن جوار البحر/هكذا أسمع صوت السعادة واضحا في أذني/عربات اسعاف مسرعة/تحمل جثث الغرقي بلا ملل) ص60. إن ثيمة الكلب هنا لا يُمكن فصلها عن جو النصوص العام. الكلاب التي تنبح في القصائد كعطب في الذاكرة، كملاحقة الجنس من حارة زقاق لآخر، كأن الكلاب هنا تختزل حالة اللهث وراء اللا شيء والأشياء المستهلكة. يقول السيد: (الكلاب في الممرات المعتمة/كالكلاب في القصائد/لا تتوقف عن النباح/أو ممارسة الجنس) ص28. ويتابع كلامه (أعود لمطبخي الصغير/ألعب الشطرنج مع صديقي لاعب البانتوميم/ أقشر برتقالة/أحد عشر كلبا/تنبح أمامي/كعطب بسيط في الذاكرة) ص30. إن الذات هنا تصرخ من مقطع لآخر لكن بلا صوت، صراخ أشبه بصدي بين أبنية فارغة، واللمبات الموفرة للطاقة فقط ترضع كهرباء المحطات الحميمية (المحبة خادعة/الحياد كاذب/التورط في الأمر حتمي/وصراخنا/معلق كنباح كلاب ضالة/يرتد صداه وسط الأبنية الفارغة/لضواحي الصحراء) ص67. في زاوية أخري للنصّ بدت الذات الشاعرة كأنها عنصر فاعل في العمل الثوري، ليست مجرد راصدة بل طرف فاعل. حاولت من مساحة لأخري أن تعقد مشهدية موازية بين فاشية الخمسينات والوضع الحالي. التباساتٌ وشيجة بين ماء تسرب بين أصابع الماضي ونافورة حمراء تغطي الحاضر. يري السيد أن هذه الالتباسات جاءت من ارتباك المشهد ما بين مفردات القومية الوطنية والطابور والعملاء والتجسس وشفرات الدمي وصفقات الأسلحة الروسية إلخ. (الفاشية التي نمت في المدارس تغزو الشوارع الآن/السحالي تجوب الطرقات/والدولة أشباح تضغط فوق أصابعنا النحيلة/المارشات العسكرية تذكر بالخمسينيات السعيدة/خدود شادية الوردية وميلودراما السينما المقتبسة عن غادة الكاميليا/النسخ الجديدة شائهه والدبابات ومجنزرات أخري/تحتل الشوارع) ص44. ولأن الديوان يحتفي بشكلٍ خاص باللحظة الثورية، فقد جاء أحدي نصوصه علي شكل روزنامة يومية تحاكي بياناتٍ ثورية كأن يقول السيد: (خيوط الاتصال مقطوعة/في الخلفية سيمفونية الرصاص الحي والخرطوش/نكتب مانيفستو المولوتوف) ص53، ليتابع في مقطع آخر (فوق المنصة/حيث النعوش فارغة/والدماء تسيل فقط/داخل مقاطع الفيديو) ص54