كنت في حاجة لمشاهدة فيديو ذبح الصحفي الأمريكي مرة ثانية لأتأكد أن ما رأيته للتو أمر حدث بالفعل في الواقع. "انه الرعب الحقيقي" هكذا وصفه وزير الخارجية البريطاني. لكن ذلك الانطباع لم يكن الأول لدي، علينا الاعتراف بأن مشاهد العنف والقتل وسفك الدماء لم تعد تؤثر فينا بالدرجة المطلوبة. نظريا محتوي هذا الفيديو فعل ضد كل المبادئ الإنسانية.. لكن متي رأينا تلك المبادئ تتحقق؟ أليست مجرد افتراضات داخل الكتب وفي خطب الشيوخ والساسة، بينما الحقيقة أن التاريخ الإنساني تصلح تماما كلمة "المذابح" دلالة عليه؟ لكن "التبلد" أمام العنف لم يكن السبب الأساسي الذي جعلني مرتبكا، أطرح سؤال البرامج الواقعية الشهير: حقيقة أم كذب؟ وفي المشاهدة الثانية فهمت سر ذلك الإحساس.. فيلم داعش المرعب، تم صناعته بأيد سينمائية ماهرة، وهذا هو الجزء المرعب والمضحك في آن، الجهاديون الذين خرجوا لرفع راية الدين يلجأون لاستخدام كتالوج السينما الهوليودية لتوصيل رسالتهم. (تجاوزنا من زمن مسألة حكم استخدام تقنيات الغرب الكافر) وعلي عكس أفلام وحياة الجهادي الإمام بن لادن التي كان محتواها يتميز بالتلقائية، وصناعتها يشوبها ضعف الجودة، تأتي سيرة داعش ورسائلها وأفلامها أكثر تعقيدا علي مستوي الشكل والمضمون، وذلك في الأغلب بقصد إحداث تأثير نفسي أكبر في نفوس المتابعين (الأعداء) شئ ما مثل طبول الحرب التي تسبق مقدم الجيوش.. بث الرعب يسهل السيطرة علي الأهداف دون خسائر كبيرة، بل وربما دون حرب. (راجع "فن الحرب"). أنا واحد من مدمني أفلام الأكشن، بات بإمكاني الحكم علي أي فيلم من تلك النوعية من المشهد الأول لتحديد مستواها وإلي أي نوعية تنتمي. وفيلم داعش الأخير يمكن تصنيفه بأنه من أفلام الدرجة الثانية، تلك التي تنتجها شركات فقيرة بهواة ينتظرون فرصة أفضل.. ممثلون رديئون، ومبالغة في الأسلحة والدماء والقسوة. يمكن ببساطة القول بأن الداعشيين محبين أيضا لأفلام الأكشن، ربما بينهم سينمائيون، (فاشلون بالطبع)، هناك "كاست كامل" يصاحب مقاتليهم، بداية من كاتب السيناريو الذي وضع ملامح القصة الأساسية، وخيطها الأساسي: تجميع مقاتلين من كل أنحاء العالم وراء رجل واحد، والهدف: هدم النظام العالمي، والمقابل: حياة الحرية بكل ما تعنيه من خروج علي أي شريعة وقانون. الزعيم: رجل لا وجه له، غامض، المعلومات المتوافرة عنه قليلة، وعندما جاءت لحظة ظهوره حرص المخرج علي أن يكون ذلك مؤثرا إلي الحد الأعلي، فسبق ظهوره المنتظر تسريب معلومات حول شخصيته، مدي قسوته، وكانت ذروة المعلومات قصة قصيرة عن حياته تصوره كما لو أنه "رجل المستحيل".. هرب من سجن أمريكي، واجه يوما رتل مدرعات وطائرات أمريكية هو وأحد المجاهدين، واستطاع الهرب بينما يسحب معه رفيقه المصاب. (هل مر علي ذهنك الآن عشرات المشاهد من أفلام أبطالها لهم نفس هذه الصفات؟). يبدأ فيلم ذبح فولي بجزء من خطاب لأوباما، يتحدث عن الأمر الذي أصدره للقوات الجوية الأمريكية بشن ضربات ضد "تنظيم الدولة الإسلامية". ثم صورة من القمر الصناعي لضربة جوية تصيب عربات من المفترض أنها تنتمي للتنظيم. اعتداء علي الدولة الإسلامية كما يقول الفيلم. الدولة التي ارتضاها الكثيرون. داعش تنطلق من كونها دولة بالفعل وسط المجتمع الدولي، لهذا تجدها حريصة، عند التفاوض علي رهائن اختطفتهم، حضور مسؤليين رسميين أممين أو حكوميين تابعين لجنسية المختطف. نوع من الاعتراف بوجودها وشرعيتها. هل تذكر المشاكل الهزلية التي يعاني منها الشرير في الأفلام؟ التحق بالشر لأن المجتمع لم يعترف به أو بموهبته! يبدو أن الداعشيين يعانون عقدة ما شبيهة بتلك. بعد المقدمة، الدافع، التي سينبني عليها الحدث المقبل، نجد أنفسنا إزاء كادر تم اختياره بمهارة.. صحراء شاسعة لا شئ عليها مطلقاً، لا جمهور أو متابعين، لا أثر للحياة وكأنها أرض ليست من هذا العالم، فقط رجلين أحدهما علي ركبتيه والآخر واقف بجواره مقنع في ملابس سوداء، الأسير يرتدي ملابس أشبه ما تكون بزي إعدام، وأقرب أيضا إلي أزياء المعتقلين في جوانتانمو. الصورة مقلوبة، السجين يصبح جلادا، والسجان يوشك علي الهلاك، واحدة من رسائل الفيلم المباشرة والواضحة للغاية. لدينا خطابان في الفيلم واحد من الأسير، الذي سنفترض أنه تم تلقينه كامل كلماته الأخيرة بعد تهديد لم يمكنه سوي الانصياع له، فالكلمات التي نطق بها، والتي تدين أمريكا وتبرر مصيره، تدعوك للتساؤل.. ما الذي يجبر رجلاً علي وشك الموت علي هذا الإيمان بقضية خصمه، خاصة أن ما نطق به يخالف كل ما عمل له ومن أجله! بعد ذلك لدينا خطاب آخر من الجلاد مكمل لخطاب الضحية، كلاهكما كتبهما سيناريست واحد، ولأجل هدف واحد معلن عنه منذ بداية فتح الكاميرا.. الذبح، السكين تجري علي رقبة فولي، لكنه لن يكون مسموحا لنا رؤية العملية، تظلم الكاميرا علي صوت حشرجة، والكادر الذي يليه مباشرة يفاجئنا بما يفترض أنه جثة الأسير ممددة ورأسه مقطوعة وموضوعة فوق ظهره. يلي هذا قطع آخر ليظهر الجلاد من جديد ممسكا بخناق أسير آخر مهددا بذبحه.. حياة هذا الأسير تعتمد علي خطوتك المقبلة. محدثا أوباما ومن وراءه أمريكا والغرب. لليوم التالي ظللت مشغولا بالتفكير في السبب الذي دعا مخرج الفيلم لحذف مشهد قطع رقبة فولي. هل كان قاسيا أكثر مما ينبغي؟ من السخرية التفكير في الدواعش علي أنهم علي هذا القدر من الرقة! رجال يعلقون الرؤوس علي أسنة الرماح، ويعلمون أطفالهم الذبح، ولديهم أفلام تعلو بالقسوة المصورة إلي أقصي حد ممكن، فما الذي حدث هذه المرة؟ ما هذا الحس الإنساني الذي تلبسهم فجأة؟ أم لأن مقص الرقيب الأمريكي حازم فيما يخص هذه الأمور! هذا ما دعاني في البداية للظن بأن الموضوع كله خدعة تم تنفيذها بقدر كبير من الاحترافية، حتي أكد مكتب التحقيقات الفيرالي الأمريكي صحة الفيديو. حسناً إذاً، بعيداً عن نظرية المؤامرة، لا يمكن التفكير سوي في أن المشهد المحذوف لم يكن جيدا بقدر كافِ، غاب عنه الفن فظهر الجلاد الذي من المفترض أنه يحقق العدل (من وجهة نظره) مجرد جزار بلا قضية. الممتع في أفلام الأكشن أنها لا تحملك عبء ما، يمكنك أن تريح عقلك من التفكير بينما الأسلحة والمقاتلين يخلصون الدنيا من شرها، سينتصر الخير والبطل في النهاية وهو المطلوب تماما، لا فلسفة ما ولا أي شكل من التعقيد. لكن في السنوات الأخيرة وجد صانعو تلك الأفلام أنه من الضروري إدخال بعض التعديلات علي تلك المنظومة وتعميق وجهات النظر فيها، إنما بصورة لا تفسد خلطتها التاريخية، وفق هذا بتنا نشاهد أفلاما البطل فيها له جانب شرير، أو أن من يريد تدمير العالم ليس مجرد مخبول، بل لديه وجهة نظر أكثر إقناعا من زملائه الأشرار في النسخ الأقدم. في الفيلم الأخير لداعش شئ من ذلك أيضا، الجلاد ليس عربيا هذه المرة، ليس من السعودية أو مصر أو باكستان، من ألقي بيان داعش وقطع عنق الصحفي الأمريكي وهدد بنحر آخر كان انجليزيًا، بريطانيا المفزوعة قالت ذلك، رئيس الوزراء قطع زيارة خارجية له فور أن تأكد له الخبر، كارثة بالتأكيد، بالنسبة لأوروبا كلها، لم يعد الأمر مجرد أن رعايا غربيين انضموا لداعش، لا، الآن داعش نفسها تحيا بقلب غربي، يمكن القول مجازا أن الإرهاب الإسلامي والمسيحي قد اتحدا معا ليخرج لنا هذا المسخ (تعبير من أفلام الأكشن). أوروبا تفكر الآن في هؤلاء عندما يعودوا، الأفكار التي يحملونها وينقلوها لأولادهم، وربما تفكر في أبعد من هذا.. أين ذهبت قيم الغرب، ما الذي جري للبطل الذي ظلت صورته علي الدوام نقية من ذلك الشر، من بإمكانه الآن وضع تعريف بسيط للخير والشر كما كانت الأمور تمضي.. الآن لم تعد ترمي بقنابلك من الجو علي العربي الإرهابي، بجواره أيضا الأوربي.. أفلام الأكشن أصبحت مثيرة للقلق بالفعل.