صلاح جاهين برشة: عماد عبدالمقصود هل هناك خلاف علي أن صلاح جاهين شاعر حقيقي؟ طرح مثل هذا السؤال هروب من طرح السؤال الذي يجب أن نواجهه؛ ألا وهو ما الفارق بين مفهوم الشعر عند صلاح جاهين وعند أوصياء الشعر؟ الوصاية علي الشعر تستند إلي مفهوم للشعر يعتنقه الأوصياء، فلا يستطيعون أن يروا شعرًا إلا المحتذِي لآثارهم وآثار أسلافهم من الأوصياء. وفي لحظة المواجهة مع شاعر حقيقي يفرض نفسه عليهم وعلي المجتمع رغم تبنيه لمفهوم مختلف للشعر، لا يكون أمامهم سوي تهميشه في البدء ثم محاولة احتوائه في المنتهي. ومن أهم سبل الاحتواء عند هؤلاء قبول الشاعر والاعتراف بعبقريته ورفض مفهومه للشعر. لصلاح جاهين مفهوم للشعر مختلف عن مفهوم أوصياء الشعر الذين يرفضون شعر العامية وينظرون له نظرة استعلاء سواء كانوا نقادًا أو شعراء؛ ولهذا لم يجد جاهين أمامه سوي أن يدافع عن مفهومه للشعر بالسخرية من حالهم؛ فلم ير فيهم سوي" عرضحالجية" يجلسون أمام قاعات المحكمة أو في "لجنة الشعر" يكتبون الشكاوي للسيد الوزير ليحرضوه علي شعراء آخرين يخالفونهم ليس فقط في مفهوم الشعر وإنما -بالأساس في الرؤية للعالم. فقد كتب جاهين معارضًا ألفية ابن مالك في النحو ، مازجًا بين الفصحي والعامية ، وساخرًا من لجنة الشعر وقتئذ، قصيدة عمودية بعنوان "رجز": يا أوصياء الشعر، يا قِمم يا من فقدتم عمركم هبا أهلا بكم وألف مرحبا عجبي ويا عجبي لآلهةٍ في جبل الأولمب تافهة ما قدرَت تكلم البشر فحررَت شكوي كما الدرر وقال عرض الحال: ياوزير نحن- الموقعين- نستجير الخلق لا تهوي سوي الجديد سوي الكلام الحق والمفيد والعين يا مولاي مبصرة واليد يا مولاي قاصرة ارأف بنا وانظر لغلبنا اقذف بنا في وجه شعبنا قل إن فن غيرنا حرام وتفضلوا بقبول فائق الاحترام ووقَّعوا: العُزَّي، هُبل، طُبل وهكذا تمخض الجبل يا خيبة الأمل!! كان -ولازال- يتجاور مع هذا الرفض لمفهوم شعر العامية قبول الشاعر العبقري صلاح جاهين، باحثين له عن خانة يتم تصنيفه فيها دون أن يتزعزع البناء العقلي للعالم وفي القلب منه مفهوم الشعر. وهنا نستدعي محاولة رجاء النقاش في تقديمه لديوان كلمة سلام في 1955 أن يقيم رؤيته للعالم علي أساس وجود ثنائية يتصارع طرفاها وهما طرف الشعر الرسمي وطرف الشعر الشعبي، ومن ثم يأتي تقديمه لجاهين واعترافه بعبقريته مرتبطًا بتصنيفه له باعتباره "شاعر شعبي". وهذا من وجهة نظري قبول بالشاعر ورفض للمصطلح الذي قدم به جاهين ورفاقه أنفسهم وهو "أشعار بالعامية بالمصرية". ذلك أن الشعر الشعبي خانة معروفة وجاهزة في البناء العقلي للشعر، أما شعر العامية الحداثي فلا خانة له بعد.
وعلي الجهة المقابلة، كانت محاولة احتواء عبقرية صلاح جاهين الشعرية في رباعياته تتم بتصنيف للرباعيات علي أساس رؤية للعالم تستند لثنائية يتصارع طرفاها وهما "ثنائية الجد والهزل"، فكان الحديث عن عبقرية الرباعيات منطلقًا من قدرة جاهين علي التعبير عن قضايا فلسفية بالعامية، وهذا يعكس مدي الاعتقاد في أن الفصحي لغة جد وتفلسف وتفكير عميق في مقابل العامية لغة الهزل و"قضاء الحاجات" اليومية!! ومن هنا يأتي اعتراف يحيي حقي ليجسد لنا مدي الخوف من تهديد البنيان العقلي القائم علي ثنائيات نتوهم في أن العلاقة الوحيدة بينها هي علاقة صراع، إذ بينما يعترف يحيي حقي بعبقرية الشاعر جاهين فإنه يتمني أن تكون رباعياته عاقرًاحتي لا يستمر تهديد الفصحي في عقر دارها!! وثم يأتي مفهوم "عامية المثقفين" أو اللغة الثالثة" كمحاولة لاحتواء هذه الزعزعة التي تتم لبنيان عقلي مؤسس علي الثنائيات المتوهمة، لكنها محاولة تحافظ علي التقييم المسبق للجد باعتباره أفضل من الهزل وللفصحي أرقي من العامية؛ لأن شرط القبول هو ترقية العامية لتكون لغة جد وتفلسف علي ألسنة المثقفين!! مرّ علي هذا الكلام أكثر من ستين سنة، فمنذ ظهور تيار شعر العامية المصرية الحداثي والذي يؤرخ له بديوان فؤاد حداد "أحرار وراء القضبان"1952، وقضية علاقة اللغة بالشعر مثارة. فهل من جديد في طرق التعامل مع شعر العامية من قبل أوصياء الشعر؟! للأسف لا جديد! ولا إبداع في استراتيجيات الاحتواء. فعندما أصدرت لجنة الشعر بالمجلس الأعلي للثقافة في 2006 كتابًا عن صلاح جاهين تحت عنوان "صلاح جاهين رؤي ودراسات" كان هذا نوعًا من الاعتراف المتأخر بعبقرية جاهين قد يفيد المعترفين به أكثر من صلاح جاهين نفسه، والمدهش أننا نجد في هذا الكتاب دراستين تعكسان استمرار محاولات الاحتواء لصلاح جاهين والرفض لشعر العامية علي مستوي الوعي النقدي بالشعر!!
كانت الدراسة الأولي عنوانها "فصاحة العامية في رباعيات صلاح جاهين" وهي للناقد المعروف د. محمد عبد المطلب (أستاذ النقد والبلاغة بجامعة عين شمس ورئيس لجنة الشعر حاليًا) وفيها يقوم بإحصاء عدد كلمات الرباعيات مميزًا بين الفصيح منها والعامي، لنعرف أن 82٪ من كلمات الرباعيات فصحي، وأن نسبتها للعامية يتأتي- بحسب عبد المطلب- من الظواهر اللغوية المصاحبة لعملية التحولات اللغوية صوتيًا وتركيبيًا ودلاليا من الفصحي للعامية. إن عنوان الدراسة وغايتها المتمثلة في إثبات فصاحة العامية في الرباعيات يكشف عن محاولة لاحتواء عبقرية جاهين في الرباعيات بالتشكيك في نسبتها للعامية علي مستوي التحليل اللغوي الإحصائي، لتصبح المعالجة اللغوية البحتة للنص الشعري آلية من آليات رفض شعر العامية واحتواء الشاعر العبقري جاهين في لحظة الاحتفاء به.ولا يجب أن ننسي هنا حقيقة أن الرباعيات نص شعري متميز والتعامل اللغوي الإحصائي معه لفرز ما هو فصيح وماهو عامي ثم ربط الشاعرية بهيمنة الفصيح فيها يمكن أن يكون بمثابة محاولة لاختزال مفهوم الشعر في مكون واحد من مكوناته وهو اللغة، من أجل الحفاظ علي تراتبية الفصحي والعامية في علاقتهما بالشعر، في لحظة احتفاء لجنة الشعر بعبقرية صلاح جاهين!!
أما الدراسة/المقالة الثانية فكان عنوانها" صلاح جاهين ليس مجرد شاعر عامية" للأستاذ أحمد عبد المعطي حجازي(رئيس لجنة الشعر سابقًا) يقول فيها:" جاهين ليس مجرد شاعر عامية، والعامية وحدها لا تعرفنا به، وإنما الشعر هو الذي يعرفنا به، إنه شاعر!!(ص62) سنكتشف من هذه المقالة أن حجازي لا يريد أن يعترف بأن جاهين شاعر إلا بعد أن يسلب من العامية -التي وصف بها جاهين أشعاره- حقها في أن تكون ملمحًا ومحددًا من ملامح الشاعرية عند جاهين. فإذا كانت اللغة من حيث المعجم والتراكيب والأساليب من عناصر الشعرية عند العرب في تراثهم النقدي، فلماذا يقدم حجازي في هذا السياق مفهوم الشعر بدون مكون اللغة؟! إن حجازي يتبني مفهومًا للشعر، لكنه في سياق الاحتفاء بعبقرية جاهين يجعله يشمل كل عناصر الشعرية إلا اللغة ليحتوي بذلك شاعرية جاهين في لحظة الاحتفاء به، ويرفض شعر العامية في آن. وهذا مفهوم مختلف عن مفهوم صلاح جاهين للشعر لأن الشعر عند جاهين ضمير لا يتجزأ، فهو ليس حركات إعرابية يمنح وجودها قداسة للمفردات ويمنع غيابها عن مفردات أخري هذه القيمة المسبقة المحفوظة للكلمات خارج دائرة الشعر، وفي نفس الوقت لا يكون الشعر عند جاهين شعرًا دون اللغة، لأنه لو جاز أن نعترف بالشعر دون لغته لجاز أن نقول إن جاهين شاعر لكنه ليس مجرد شاعر عامية!! ذلك أن عامية جاهين مستوي من مستويات اللغة العربية الخمسة التي تحدث عنها العالم اللغوي الراحل د. السعيد بدوي منذ عقود في كتابه "مستويات العربية المعاصرة". ومن ثم فالسؤال ليس سؤال أي مستوي لغة استخدمه جاهين في كتابة الشعر، وإنما السؤال هو: هل يمكن فصل أي مستوي من مستويات اللغة حين يدخل دائرة الشعر عن ذاكرته الشعرية؟ هل تأتي اللغة بلا خيال شعري ارتبط بها وارتبطت به؟! الشعر ضميرٌ، والضمير لا يتجزأ يا سادة!!