نهض عند الواحدة ظهرا. دخل المطبخ و هو يجرّ ساقيه جرّا. تناول الركوة و صبّ فيها قليلا من الماء ثم وضعها علي المطبخة. أخذ علبة الكبريت و سحب عود ثقاب. تأمله لبعض الوقت قبل أن يشعل الموقد. عندما فتر الماء أضاف إليه البنّ و السكر و حرك جيدا. فار البنّ و اندلق علي الموقد محدثا تشتشة أفاقته من شروده حمل قهوته و اتجه إلي الشرفة أين تعوّد أن يشرب القهوة التركية. كانت مرّة أخري بلا وجه. هل كان مقدار البنّ الذي وضعته أقلّ من اللازم أم كان الماء أكثر من اللازم أم ارتكبت خطأ ما في سكبي القهوة في الفنجان ؟! ضمن. تعود علي شرب القهوة التركية من يدي زوجته فقد كانت تقدّمها له علي أصولها في ذلك الفنجان. القهوة ذات الوجه ؛ رغوة البنّ بنكهة البرتقال. التفت إلي الصالون و مع تحرك ستارة نافذته الكبري عادت صور الماضي القريب... هاهما طفلايه يركضان ويلعبان في المنزل. يحتكمان إليه عندما يتشاجران. هاهي زوجته تطلب منه الذهاب إلي التسوق أما هو فيحدثها حول خطة المدرب التي اعتمدها في مباراة كرة القدم الجارية في التلفاز والتسديدة الطائشة للاعب المتهوّر. امتعضت من لامبالاته و إصراره علي مشاهدة مباراة كرة القدم وعدم استجابته لطلبها. فقالت له: ابق أنت و كرتك. ناولني مفتاح السيارة لأذهب إلي السوق. سأصطحب الأطفال معي. هاهو الشرطيّ يبلغه بالفاجعة موت زوجته وطفليه في حادث مرور. و ها هو الآن شقته باردة ساكنة سكون المقابر. و تلفازه صامت منذ سنة. أصابه الضجر ألقي بالفنجان من الشرفة و تابع سقوطه الحرّ ليرتطم بالإسفلت قبل أن ينفجر شظايا. استفاق مذعورا. ضغط علي مفتاح الكهرباء لينير الأبجورة الموجودة علي يسار سريره لتبدّد ظلمة غرفته. ياله من كابوس قال في نفسه أحسّ بجفاف في حلقه. نهض من السرير و اتجه إلي باب الغرفة حافي القدمين. تقدم متثاقلا في الممرّ المؤدي إلي المطبخ الذي تعود أن يترك مصباحه الكهربائي مضاء منذ تلك الفاجعة. فتح باب الثلاجة وتناول قارورة ماء أفرغها في جوفه. و اتجه نحو الشرفة. رأي في منامه أنه يدخل في مصنع كبير للبنّ كما كان يتمنّ دائما مكتشفا جميع مراحل تصنيعه من وصول حبات القهوة من المزرعة إلي خروجها طحين بنّ كانت ناقلات القهوة تدخل إلي فرن كبير لتخرج منه مقلية لتمر إلي المطحنة الكهربائية مفرغة حمولتها فيها. صعد علي سلم تلك المطحنة الكبيرة ليشاهد كيف تمر حبات القهوة بين دولابي الطحن. هناك رأي ساقه تنزلق ليفقد توازنه و يسقط في ظلمة المطحنة التي ابتلعته.
بعد خروجه من العمل مر بالمغازة العامة اقتني مجموعة من الفناجين الجديدة. الفناجين التي كانت بحوزته كان قد ألقي بها من الشرفة واحدا واحدا. أراد أن يحافظ علي شرب القهوة التركية لكنه كان يفشل دائما في تحضيرها. كانت زوجته تهمس له طهي القهوة له أصوله. القهوة لا تقدّم إلاّ في فنجان. القهوة ذات الوجه ؛ رغوة البنّ. كل ذلك يحتاج أيادي خبيرة. عند وصوله شقته خلع ثيابه و أخذ دشا. ثم دخل المطبخ. قال في نفسه اليوم فنجان جديد سأنجح هذه المرّة. سأعثر علي الوجه. تناول الركوة و صبّ فيها قليلا من الماء أضاف البنّ و السكر و وضع كل ذلك علي الموقد. بعد أن استوت القهوة حمل فنجانه و اتجه إلي الشرفة. كالعادة أصابته الخيبة. فسرعان ما أنطفأ وجه القهوة. قال في نفسه أين المشكل ؟! البنّ ذو جودة عالية،الفنجان جديد،النار هادئة! اللعنة علي هذا الحظ. ثم رمي بالفنجان من الشرفة.
عاوده الكابوس في ليلة أخري. نهض من سريره ودخل إلي المطبخ محدّثا نفسه. يجب أن أتناول فنجان قهوة لعلي أنجو من صور هذا الكابوس. حمل قهوته وانتقل بها إلي الشرفة كالعادة . هناك رأي وجه زوجته في القهوة. حول مصب الفضلات كان حشد من الناس يتأملون الجثة الهامدة علي بطنها وصوت سيارة الشرطة يلتهم من بعيد الصمت الجاثم عليهم.