مع الدكتورأبوالغار وصنع الله إبراهيم وأحمد مرسى وزين العابدين فؤاد فى أول زيارته للقاهرة رحل الصديق والأخ الكريم عن دنيانا ولكنه سوف يبقي دائما في عقولنا وقلوبنا. رحل نصر بعد أن اثار ضجة كبري في مصر والعالم العربي والاسلامي بفكره المتقد وعقليته المنظمة التي ابتكرت طرقا ووسائل في إعمال العقل في علوم القرآن وعلوم التأويل خاض فيها بطرق مبتكرة تجاوزت مفكرين سابقين وفتحت مجالات كبيرة للتفكير ولتجديد الفكر الديني. مما لاشك فيه أن نصر أبوزيد المفكر والباحث المذهل أحدث أثرا كبيرا علي المفكرين والباحثين والمفسرين في علوم القرآن وهو كان مفسرا مجددا واستخدم أسلوبا معروفا في التأويل ولكن صاغه بطريقة مبتكرة أدت إلي نتائج علمية مهمة يمكن أن تغير تفكير المسلم في العصر الحديث وتتفادي وتمنع كثيرا من المشكلات العويصة التي نشأت بين تفاسير القرآن وبين متطلبات الحياة وتغيراتها بعد قرون طويلة من الدعوة المحمدية وهو أمر حاول الكثير من علماء المسلمين من مختلف أطياف التفكير والانتماء الفكري ايجاد حلول لها فجاءت معظم المحاولات تلفيقية غير مقنعة ولكن نصر جاء باستخدام العقل بايجاد حلول عبقرية مقنعة تسمح للمسلم أن يتعايش مع القرن الواحد والعشرين بسهولة وبساطة. ولكن الأمر لم يكن من المعقول أن يمر بسهولة، فالتيار السلفي شديد الرجعية لايقبل استخدام العقل والتفكير فاعتبر أن نصر أبوزيد خارج عن النص، فكيف ينادي بإعمال العقل ونظرا لانه لم يكن يخاطب العامة بل كان يخاطب المتخصصين والمثقفين فاعتبر ذلك هجوما علي كل السلفيين وعلمائهم ومفكريهم. وكان تاريخ نصر أبوزيد العلمي يضعه حتي بدون أن يخط حرفا أو ينادي بفكرة جديدا في مصف الخوارج فهو يقول جهارا نهارا انه تلميذ محمد أحمد خلف الله وأن أباه الروحي هو الشيخ أمين الخولي ومثله الأعلي في الفكر والثقافة هو طه حسين. قل لي بالله عليك من يقول انه تتلمذ علي يد هؤلاء جميعا عن طريق استيعاب أفكارهم وهضمها والإيمان بها؟ كل هؤلاء اتهموا بالعيب في الدين وبعضهم اتهم بالكفر فانه من الطبيعي أن ينظر شيوخ ومفكرو السلفية إلي نصر أبوزيد التلميذ النابغ لهؤلاء جميعا علي أنه علي الأقل خارج التيار واتهموه في اسلامه. ولم يكن نصر مفكرا كبيرا وباحثا في علوم القرآن يجلس في برجه العاجي بعيدا عن المجتمع بل كان داخل بوتقة المجتمع المصري بكل جوارحه فقد اضطر الي انهاء دراسته المتوسطة والعمل في وظيفة فني لاسلكي ليستطيع أن يساعد العائلة بعد أن توفي والده ولكن استطاع أن يدرس ويحصل علي شهادة الثانوية بتفوق أثناء عمله ليلتحق بكلية الآداب ويصبح طالبا متفوقا في قسم اللغة العربية ويعين معيدا بالكلية. ولم يمنعه تفوقه العلمي من النشاط الجامعي في أسرة نشيطة للطلاب أيام النشاط الطلابي في السبعينيات وقبل أن يتم تكميم أفواه وقلوب وحناجر الأساتذة والطلاب وشارك في نشاط سياسي مطالبا بحرب لتحرير سيناء وتم فصله من الجامعة ضمن مجموعة من الأساتذة الاحرار ليعمل في وظيفة حكومية حتي عادوا جميعا الي رحاب الجامعة. لم يكن نصر عالما فقط ولكنه كان مواطنا مصريا منشغلا بهموم الوطن ومناضلا بين صفوفه كمواطن وكأستاذ في الجامعة. وقد حانت الفرصة لبعض الحاقدين علي كفاءته ونبوغه حين تقدم للترقية في وظيفة أستاذ ومن المعروف أن التقرير العلمي للمحكمين يقدر درجات علي كل بحث ويقول رأيه العلمي في مجمل الابحاث ولكن أحد المحكمين كتب في التقرير العلمي أن الباحث كافر وهذه اهانة للعلم والعلماء وللجامعة وانحازت ادارة الجامعة إلي القوي السلفية وتحولت ترقية أستاذ إلي قضية قومية علي صفحات الأهرام. وانتهي الامر بعدم ترقية نصر أبوزيد وتمت ترقيته بعد شهور ولكن دعوي الحسبة طالته وانتهي الامر بالحكم الشهير بتفريقه عن زوجته د.ابتهال يونس واضطر نصر أن يسافر ليعمل في أكبر مركز للدراسات الاسلامية في جامعة ليدن في هولندا لينتج أبحاثا وكتبا ويجوب العالم كله شرقا وغربا وساعده اتقانه للغة الانجليزية. وبعد غربة عدة سنوات عاد نصر علي فترات الي وطنه الحبيب وبين مدينة 6 أكتوبر وبين قحافة بجوار طنطا كان يقضي أوقاته في القاهرة بين أصدقائه. عاش نصر حياة مليئة بالصعاب لأسباب متعددة نابعة من المجتمع ومن الدولة ومن التخلف وتغلب علي كل ذلك في مصر وفي الغربة بصلابة وايمان بما يقوم به وأولا وأخيرا بزوجته الصامدة الدكتورة ابتهال يونس التي وقفت بجواره في أحلك الظروف التي استمرت طويلا ولكن تخللتها أوقات قليلة من الفرحة حين حصل علي أكبر وسام للدفاع عن الانسان من جامعة ليدن وكرمته ملكة هولندا في حفل رائع تشرفت أن احضره مرتديا روب جامعة القاهرة مع رئيس الجامعة والعمداء والأساتذة، وتحدث نصر عن حق الانسان الفلسطيني فخيم الصمت علي القاعة. وشاهدته أيضا فرحا حين قابل لأول مرة في زيارة للقاهرة بعد غيبة سنوات طويلة مجموعة كبيرة من الاصدقاء اختارهم بنفسه لنلتقي جميعا. لقد رحل نصر ولكن تأثيره وفكره سوف يبقيان وسوف تأتي أيام قادمة ربما يجد المسلمون - حتي المحافظين منهم - أن أفكاره سوف تكون نبراسا لحل الاشكالية بين التفسير السلفي للقرآن وبين التطور السريع في العلم الحديث. وداعا أيها الصديق الجميل الرائع وتحية وتقدير لزوجتك الصامدة.