ربما يكون البلاغ الذي تقدم به مجموعة من المثقفين والأثريين وشخصيات عامة وأحزاب، للنائب العام مساء الأحد الماضي من أخطر البلاغات التي قدمت، فيما يخص الآثار الإسلامية والقاهرة التاريخية، فقد سبق أن قدمت العديد من البلاغات علي مدي السنوات الماضية، لكن المختلف في هذه المرة أن البلاغ يتضمن وثائق وصورا ومعلومات، تتضمن الانتهاكات والجرائم التي ترتكب في حق هذه الآثار، ومن قام بارتكاب هذه الجرائم. فالبلاغ يحصر الأماكن التي تم ويتم الاعتداء عليها والجهات التي تشارك في الاعتداء، وللأسف بعضها جهات حكومية، فضلا عن التعدي من قبل الأفراد بالبناء علي أماكن أثرية وعدم تطبيق قانون الآثار والارتفاعات المسموح بها في القاهرة التاريخية، وهنا يصبح التقاعس من الجهات المسئولة جريمة تستحق المعاقبة والمحاسبة. وبالتالي خطورة هذا البلاغ تكمن في أنه يشير بوضوح إلي الجريمة ومرتكبيها ولا يبقي سوي التحرك من قبل النائب العام المستشار هشام بركات لانقاذ آثار مصر، لأن الأمر هنا لايتعلق فقط بالتاريخ والهوية، وإنما أيضا هناك اعتداء علي المال العام، لما تمثله هذه المناطق والأماكن من قيمة إقتصادية لا يستهان بها. هذا البلاغ المقدم للنائب العام، جاء عقب الندوة التي نظمتها مكتبة القاهرة الكبري، تدعيما للحملة التي تتبناها جريدة الأخبار والروائي الكبير جمال الغيطاني، تحت مسمي »انقذوا القاهرة التاريخية«. وقد حذرت الندوة، وكما جاء أيضا- في البلاغ من أن مدينة القاهرة علي وشك الخروج من قائمة التراث العالمي، التي أعلنتها اليونسكو عام 1979، بسبب الانتهاكات المتتالية والمتتابعة علي هذه المدينة، وطابعها المعماري المتميز، الذي يعبر عن التواصل بين الحضارات المختلفة عبر آلاف السنوات. وقد أستطاعت د. جليلة القاضي أن تشخص خطورة القضية، حيث أكدت أن زلزال 1992 كان نقطة تحول فاصلة في سياسات الحفاظ بشكل عام علي التراث، وكان هناك مجموعة من المشاريع التي عادت بآثار إيجابية علي مجمل التراث الثقافي المادي والمعنوي في مصر، ومن ذلك مشروع إعادة وتهيئة منطقة الدرب الأحمر بالتعاون مع مؤسسة الأغاخان، وإنشاء حديقة الأزهر، وتنفيذ المسار السياحي لشارع المعز، وتجديد منطقتي الفسطاط والقلعة، وأضافت د. جليلة: إلا أن هذا الوضع شهد تراجعا بعد ثورة 25 يناير 2011، ومستمر إلي الآن، فقد حدث تدهور كبير للمناطق والمباني التراثية، نتيجة لغياب الدولة وشيوع الفوضي، وتدني الأداء الأمني، مما أتاح الفرصة لظهور عمليات سطو ونهب منظم للمنشآت التاريخية، خاصة في قاهرة المعز، هذا السطو الذي طال في البداية أجزاء من الأبواب، ليطال بعد ذلك الأبواب التاريخية نفسها، فضلا عن سرقة القطع المتحفية والتعدي علي حرم الآثار بالبناء العشوائي، فتحولت منطقة الدرب الأحمر ذعلي سبيل المثال- إلي منطقة قبيحة، بالإضافة إلي تشويه العديد من المناطق الأخري في القاهرة الفاطمية، التي أصبحت مهددة بالخروج من قائمة التراث الإنساني. وأختتمت د. جليلة القاضي أستعراضها لخطورة الموقف بقولها: أن الخراب الذي يهدد إرثنا الثقافي يحتاج منا إلي وقفة جادة، بل إلي انتفاضة لكي لا نستيقظ في يوم، فنجد أن مدينتنا التاريخية قد فقدت طابعها المميز بلا رجعة، وأصبحت تماثل الأحياء العشوائية الواقعة علي تخومها ومنشآتها الفريدة التي قاومت الزمن، وقد غدت هياكلها عارية بعد تجريدها من عناصرها المعمارية من أبواب ومشربيات وزخارف جصية ودواخلها مخوخ فقير، بعد الاستيلاء علي المنابر والنافورات والسجاجيد ونزع بلاط الأرضيات، إن هذا السيناريو المرعب ليس ببعيد، فالبدايات تؤدي حتما إليه. معلومات موثقة وبمعلومات وصور موثقة تمكنت الباحثة أمنية عبد البار- بمعاونة باحثين آخرين- من تحديد التعديات علي الأماكن الأثرية بدءا من الأماكن التي نزعت منها الحشو مما آدي تشويه للزخارف الممتدة من مئات السنوات، وذلك كما حدث في المساجد التالية: جامع السلطان مؤيد شيخ، جامع السلطان برقوق، جامع السلطان الطنبغا المارداني، جامع السلطان حسن، جامع السلطان قايتباي، كما رصدت الدراسة الحالة الكارثية علي مستوي المباني التاريخية، كما هو الوضع في الأماكن التالية: جامع السلحدار، جامع قجماس الأسحاقي، قبة جاني بيل الأشرف، قبة ومسجد الأمام الشافعي، جامع الطنبغا المارداني، الجامع الأزرق، سبيل رقية دودو، خلف حوش جامع الحاكم. وأستعرضت أمنية البار كافة أنواع الانتهاكات التي تتعرض لها القاهرة التاريخية من بناء في حرم الأثر، أو عدم الالتزام بإشتراطات البني في الأماكن الأثرية، وأشارت إلي أن قبة جاني بك الأشرف مهددة حاليا بالانهيار، وهي تعد من أهم القباب التي بنيت في عصر المماليك البرجية، فهي مهددة بالانهيار، بسبب تعديات هيئة النظافة والتجميل بحي منشأة ناصر، وكذلك تشهد قبة ومسجد الأمام الشافعي تهديدا، مرده إنشاء مبان بجواره مخالفة لقوانين البناء وقوانين الحفاظ علي التراث. ومن الأماكن- أيضا- التي أشارت الدراسة إلي خطورة وضعها الحالي، جامع السلحدار، حيث قام مالك العقار الواقع برقم 6 بزقاق برامق من حارة أصلان بالدرب الأحمر ببناء سبعة أدوار فوق الأرضي مخالفا بذلك إشتراطات البناء في القاهرة التاريخية، و-كذلك- البناء دون ترخيص منتهكا لحرم الأثر الملاصق له، ونفس الوضع يتعرض له جامع قجماس الأسحاقي الذي يتعرض لخطر شديد، وهو الجامع الموجود صورته علي فئة الخمسين جنيها، ويعد أحد المساجد التي بنيت في عصر السلطان قايتباي، وحوله الكثير من المباني المخالفة، التي تضر به ضررا بالغا. وأكدت أمنية عبد البار أنها تتعجب من عدم أداء الجهات التابعة لمحافظة القاهرة بمهام عملها، رغم الشكاوي المقدمة من المهتمين بالآثار ضد هذه الانتهاكات. التعدي لعبث اللصوص أما الأديب الكبير جمال الغيطاني الذي أدار الندوة وأستعرض فيها بثقافته ودراسته الواسعة الأماكن المختلفة للقاهرة التاريخية، فقد أشار في كلمات واضحة إلي أن العبث بالآثار بدأ قبل ثورة يناير، لكن الأمر زاد بشكل كارثي بعد الثورة، وتم التعدي علي المناطق والآثار الإسلامية، وأن هذا التعدي منظم، وتقوم به دويلة تعلن عن قرب إفتتاح متحف للآثار الإسلامية، وتساءل الغيطاني من أين لها بهذه الآثار، وطالب وزارة الداخلية- مع تقديره لدورها بمواجهة الإرهاب- ان تتصدي لهذه السرقات المنظمة، التي لا تقل خطورة عن مواجهتها للإرهاب، فضياع الآثار المصرية يعني ضياع الهوية. وحذر الغيطاني أنه لو أستمر الوضع كما هو، سيأتي اليوم الذي سننظر فيه إلي تراثنا علي أنه ذكري ونتفرج عليه في صفحات الكتب، لذا ناشد الأنتربول المصري بضرورة عمل نشرة دولية بأوصاف القطع المسروقة، وناشد- كذلك- الأثريين والمهتمين بالآثار المصرية بأن يتقدم من يحتفظ بصورة لقطعة مسروقة لجهات التحقيق، التي ناشدها بضرورة أن تبدأ عملها فورا، كما يمكن إرسال هذه الصور للأنتربول، وذلك للحفاظ علي هذه القطع من التداول وبيعها في المزادات. الغيطاني أعلن بصفته رئيسا لمجلس إدارة مكتبة القاهرة الكبري، عن أن المجلس في حالة انعقاد دائم، لمتابعة البلاغ المقدم للنائب العام، كما أعلن عن تشكيل سكرتارية دائمة لمتابعة حال الآثار المصرية والتصدي للعبث بها، ومحاولة استرداد ما خرج، وفضح المتعاونين من المصريين أو غيرهم مع الجهات التي تريد سرقة تراث مصر، وأضاف أن هذه السكرتارية تتكون من د. شهيرة محرز وستكون مسئولة عن متابعة الحال داخل مصر، ود. جليلة القاضي لمتابعة ما يجري في الخارج وتعريف المجتمع والمنظمات الدولية بالآثار المطلوب استعادتها، وأعلن- أيضا- أن الانضمام لهذه السكرتارية متاح لكل المهتمين بتراث وآثار الوطن، الذي وضع أمانة في أعناقنا بضرورة الحفاظ علي تراثه، مؤكدا أن الامتداد الحقيقي للثورة المصرية يكمن في الحفاظ علي ذاكرتها. الموقعون علي البلاغ وقع علي البلاغ الروائي جمال الغيطاني، د.عماد أبوغازي وزير الثقافة الأسبق، د. جليلة القاضي، وعدد من المثقفين وأساتذة الآثار وجمعيات المجتمع المدني وحزب التحالف الشعبي الاشتراكي والحزب الاشتراكي المصري، والبلاغ مقدم ضد محافظ القاهرة ورؤساء الأحياء الذين يقع في دائرة عملهم مناطق القاهرة التاريخية، وذلك لتقصيرهم بصفتهم الوظيفية بالقيام بواجبات عملهم في حفظ الأثار التي تقع في دائرة اختصاصاتهم من العبث والإهمال والتشويه. وفي نهاية الندوة فتح ياسر عثمان مدير مكتبة القاهرة الباب للنقاش من جانب الحضور، الذين أجمعوا علي ضرورة السعي للحفاظ علي تراث الوطن.